أقلام وآراء

أوروبا بين سورية وفلسطين.. ازدواجية صارخة

بقلم: خليل حمد

رغم حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ عام وقرابة ثلاثة أشهر، إلا أنه مضى أكثر من عام منذ زار الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل فلسطين المحتلة والتقى مع الرئيس محمود عباس حيث إلحاح القضية الأكثر تعقيداً في العالم، وهمجية آخر استعمار تقليدي على وجه الأرض ليست أمراً يمكن أن يحرك دول القارة العجوز كي تتصرف وفقاً للمبادئ “الإنسانية” التي تزعم أنها تمتلكها.
ما يحرك أوروبا ويثير لعابها حدث كالذي يجري في سورية الشقيقة، ولأجل هذا تهافتت الوفود الأوروبية إلى دمشق بعد أيام قليلة فقط من إعلان سقوط نظام بشار الأسد لتلتقي قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، الذي كان حتى الأمس القريب يدعى في قاموس أوروبا نفسها “أبو محمد الجولاني” زعيم “هيئة تحرير الشام”، التنظيم الذي لا يزال يُصنف “إرهابياً” لدى الأمم المتحدة والدول الأوروبية نفسها.
ما أن انتهت الغارات الإسرائيلية من تدمير مقدرات الجيش السوري في محيط دمشق (انتقلت بعدها الغارات المكثفة لتطال جميع مواقع أسلحة الجيش السوري في باقي المناطق السورية) حتى بدأت الوفود الغربية “تحج” إلى العاصمة السورية طمعاً في حجز حصتها من الكعكة.
أول الواصلين الغربيين إلى دمشق كان المبعوث الأممي الخاص إلى سورية “غير بيدرسون “، في 15 ديسمبر، أسبوع واحد بعد سقوط نظام الأسد، تتالت بعدها زيارات وفود من دول أوروبية رئيسية. وفد رفيع المستوى من الخارجية البريطانية استمع لرؤية أحمد الشرع لما حدث في سورية، ولإشادته بدور لندن “الهام دولياً وضرورة عودة العلاقات” بين العاصمتين. الوفد الفرنسي وصل في اليوم التالي. اجتمع بممثل عينته الإدارة الجديدة في دمشق، ورفع العلم الفرنسي فوق سفارة باريس المغلقة منذ اثني عشر عاماً.
في الثامن عشر من ديسمبر، أي في اليوم الذي تلى زيارة الفرنسين، حط وفد ممثل عن وزارة الخارجية الألمانية رحاله في دمشق وبحث مع الشرع التطورات الأخيرة في سورية بحسب ما أعلنت وسائل الإعلام، فيما تأخرت زيارة بعثة الخارجية الأمريكية يوماً لتصل في العشرين من الشهر ذاته وتؤكد “التزام الجانب الأمريكي بدعم الشعب السوري والإدارة السورية الجديدة”.
لقد عانى الشعب في سورية على مدار نحو أربعة عشر عاماً من ويلات الحرب والحصار الاقتصادي والفساد الإداري والمالي والمجتمعي، وكل مفرزات الحرب المقيتة التي أوصلت كثيراً من السوريين إلى ما دون خط الفقر، لكن هذا الخط يعرفه الفلسطينيون أيضاً منذ سنوات نتيجة الحصار الإسرائيلي على القطاع بحراً وبراً وجواً، والسرقة الإسرائيلية الموصوفة لأموال السلطة الوطنية الفلسطينية بما يعني منعها من الوصول إلى مستحقيها في الضفة المحتلة.
وبالتأكيد فإن ما حصل في سورية يستحق أن يتوقف العالم بأسره ملياً عند تداعياته، فهذا حدث كبير سيؤثر على مجمل المشهد في المنطقة والعالم، لكن الوصف ذاته ينطبق على ما يجري في فلسطين، فمنذ العام 1948 وقع الحدث الذي غير وجه المنطقة بالكامل، يوم بدأت النكبة العربية بالإعلان عن قيام “إسرائيل” على أرض فلسطين التاريخية. حدث لا يزال يتفاعل إلى اليوم، حرباً وحصاراً وتفاصيل تُخرج شياطينها كلما طرق أحد بابها.
ولكن أوروبا وعموم الغرب الحاضر اليوم في سورية يُغيِّب نفسه عمداً عن فلسطين وقضيتها. فمنذ العام 2002، أعلن رئيس الوزراء الإسباني حينها ” خوسيه ماريا أزنار ” عن لجنة رباعية دولية لحل الصراع العربي الإسرائيلي، لجنة تضم الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ثاني وآخر مبعوث خاص للجنة هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. لم تلعب أوروبا دورها يوماً في القضية الفلسطينية، لا عبر الرباعية الدولية ولا خارج إطارها. لا مسؤولين أوروبيين يحولون مسار طائراتهم من مطار دمشق الدولي إلى أي مطار في فلسطين التاريخية عسى أن يغيروا في واقع الصراع الذي يزداد تعقيداً ولا أفق لحله. لا صوتاً أوروبياً يخترق جدار الحرب الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني.
لا يعني ما سبق أن المسؤولين الأوروبيين لا يهتمون لما يجري في فلسطين كما يهتمون لما يجري في سورية. بكل بساطة: يبحث الأوروبيين بين فينة وأخرى ما يجري في فلسطين مع مسؤولين “إسرائيليين”، يحرصون على تلبية متطلباتهم من المال والسلاح للاستمرار في قتل الفلسطينيين والعرب، فيما لا تجد المطالب المحقة للفلسطينيين أذناً صاغية، ولا تحفز عند الاوربيين رغبة ليكونوا عنصراً فاعلاً في الحدث.
أثبت ما يجري في سورية أن الأوروبيين والغربيين وفي كل ملفات العالم التي يتدخلون فيها يمارسون ازدواجية المعايير. ويفضلون طرفاً واحداً، ويقدمون لأجله ما يستطيعون. مواصفات هذا الجانب الذي تفضله أوروبا تتلخص في: “كي تقيم أوروبا علاقات معك وتدعمك عليك أن تكون مصنفاً “إرهابياً” على مستوى العالم، أو أن تمارس الإرهاب بالسلاح الذي يرسله الغرب ذاته”. أوروبا اليوم لا تحمل شيئاً من مبادئها المعلنة، ورغم سوداوية المشهد، إلا أن أوروبا تبدو بعد سقوط النظام السوري أكثر اتساقاً مع سلوكها الاستعماري، وبالتالي جزءاً من المشاكل في العالم وليست جزءاً من أي حل، وهذه حقيقة لا تقبل النكران.

زر الذهاب إلى الأعلى