حماية الوطن تحت راية منظمة التحرير


بقلم: محمد علوش
في زمنٍ تتقاذف فيه الرايات، وتتنازع الأيادي على شرعية التمثيل، تبقى هناك راية واحدة، خُطّت بدم الشهداء، ورُفعت من بين الركام، وُسجت من شقاء اللاجئين وصرخات المخيمات، راية منظمة التحرير الفلسطينية.
ليست مجرد مؤسسة، ولا هي جداراً من بيروقراطية عتيقة؛ إنها الحلم الذي تجمّع من فتات الجغرافيا، والإرادة التي صمدت حين انهارت الساحات، والممثل الذي لم يوقّع باسم فصيل، بل باسم شعب بأسره، موزع بين الخنادق والمنافي والشتات.
حماية الوطن اليوم، وقد تكالبت عليه قوى التفتيت والإنهاك، لا تكون إلا تحت هذه الراية الجامعة، لا لأنّها كاملة، ولا لأنّها لم تُخطئ، بل لأنها الإطار الذي اجتمع فيه المختلفون يوماً، ووقعوا بأن الدم واحد، والهدف واحد، وأنّ لا صوت يعلو فوق صوت فلسطين.
تحت راية منظمة التحرير، خيضت معارك الكرامة لا من أجل الكرسي، بل من أجل الهوية، ففيها كان الجميع، من كل ألوان الطيف السياسي والحزبي الفلسطيني، كتفاً إلى كتف في خندقٍ واحد، لا يسأل أحدهم الآخر: من أين أنت.. بل: إلى أين سنمضي معاً؟
هي التي حملت القضية إلى الأمم، ورفعت صوت من لا صوت لهم، ووقفت على منابر العالم تقول: نحن لسنا إرهابيين، نحن شعبٌ يريد أن يعيش كما يليق بالبشر.
وعندما حاولت بعض العواصم والعواصف إسقاطها، بقيت رغم كل الجراح، لأنها ببساطة ليست ملكاً لفئة، بل لكل فلسطيني ما زال يؤمن بأن الوطن ليس سلعة تُقسم، بل كرامة تُحمى.
اليوم، تواجه القضية الفلسطينية أخطر مراحلها منذ النكبة، ولم تعد مشاريع التصفية مجرد نظريات، بل وقائع تتسلل تحت عباءة التطبيع، والانقسام، والتحايل على الحقوق، يراد لفلسطين أن تفرَّغ من مضمونها، أن تختزل في إدارة سكانية تحت احتلال، وأن يُنزع عنها بعدها التحرري، وهويتها الجامعة، وحق شعبها في العودة وتقرير المصير.
وفي خضم هذا المشهد الملبد، لا يمكن مواجهة هذه المخاطر الكبرى إلا بإعادة توحيد السقف السياسي للشعب الفلسطيني، وإعادة بناء المؤسسة التي تمثل الجميع، والتي يجب ألا تظل على الهامش، فلا مواجهة للتصفية إلا بخندق فلسطيني موحد، وخريطة طريق تبدأ من إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية وتمثيلية حقيقية.
وليس المطلوب ترميم الشكل، بل إعادة بناء الشرعية الوطنية على قاعدة الشراكة، وهذا لن يتحقق إلا عبر انتخاب مجلس وطني فلسطيني جديد، يضم كافة القوى الوطنية، وكافة التجمعات الفلسطينية في الداخل والشتات، بما يعيد للمنظمة زخمها وشرعيتها، ويعيد للمجلس الوطني دوره كبرلمان الشعب الفلسطيني، ومركز القرار السياسي الجامع.
نحن لا نقدّس الأشكال، لكننا نؤمن أن الخيمة التي اجتمع تحتها الجميع لا تهدم بل ترمَّم، ولا تُلغى بل تفعَّل، ولا تُدفن بل تنهض من كبوتها لتستعيد دورها التاريخي والوطني.
وحين نقول “تفعيل المنظمة”، لا نقصد فقط بياناً سياسياً يوزَّع، أو اجتماعاً يعقد ثم يطوى، بل نقصد التحول إلى حالة نضالية حقيقية، تواكب التحديات، وتنهي الانقسام، وتواجه الاحتلال في كل الساحات: في الميدان، في المؤسسات، في الرأي العام العالمي، وفي جبهات القانون والدبلوماسية والمقاومة الشعبية.
إن الذين يحاولون تمزيقها، باسم التجديد حيناً أو المقاومة حيناً آخر، ينسون أو يتناسون أن تمزيق الإطار ليس بناءً، وأن خلق البدائل والأطر الموازية لا يصنع وحدة، بل يعمّق الانقسام، ويحوّل القضية إلى ساحات نفوذ وأجندات متضاربة.
فلنحمِ الوطن، لا برايات الفصائل المتنازعة، بل براية واحدة تتسع لكلّ الأعلام، لنعيد للمنظمة وجهها النضالي، لا كشعار، بل كأداة كفاح سياسي وميداني، تقاوم الاحتلال، وتواجه الانقسام، وترفع علماً واحداً لا ينكس إلا على جسد شهيد.
فالمنظمة ليست تاريخاً فقط، بل مستقبلٌ إن أردناه، ولواؤها ليس رمزاً فقط، بل أمانٌ لو عرفنا كيف نحميه، وهي رايتنا الأخيرة، وإن سقطت، سقطنا بلا اسم.