عمال فلسطين وشعبها.. قلاع تضحية وشرف

Nael Musa
Nael Musa 2 مايو، 2024
Updated 2024/05/02 at 10:11 مساءً

 بقلم: د.فريد إسماعيل

في فلسطين، وفي قطاع غزة على وجه التحديد، تغير مفهوم اليوم العالمي للعمال بشكل جذري، ولن يعود كما كان أبدا أو كما هو متعارف عليه في العالم. لن يكون بعد اليوم عيدا أو يوما لإحياء ذكرى النضالات والمكاسب التاريخية التي حققها العمال والحركة العمالية منذ نهايات القرن التاسع عشر، أو تذكيرا بالحركة العمالية في استراليا في نيسان عام ١٨٥٦ أو بإضراب هايماركت ريوت في شيكاغو الأمريكية عام ١٨٨٦ بعد تفجر نزاعات بين العمال وأرباب العمل لتخفيض ساعات العمل والذي تصاعد الى أعمال عنف.

في قطاع غزة اختفت كل الفوارق الطبقية والاجتماعية والاقتصادية بين الطبيب والعامل والمهندس والموظف والممرض والمحامي وصاحب المؤسسة والدكان، ليصبحوا جميعا عمالا في مجتمع الإرادة والصبر والبقاء في أرض الوطن، عمالا في تضميد الجراح وتأمين الطعام ودفن الضحايا والشهداء.  لا يكافحون من أجل تخفيض ساعات عمل، يعملون على مدار الساعة واليوم والشهر، رجالا ونساء واجدادا وحتى أطفالا.  لا ينتظرون من يحتفل بهم، بل انتظروا طويلا من كان بإمكانه ممارسة الضغط والنفوذ لوقف حرب الإبادة بحقهم، ولكن لا حياة لمن تنادي.

الأطباء في بقايا مستشفى في غزة يعملون لساعات في إنقاذ حياة طفل أخرج من تحت الأنقاض، ليسرعوا مع الممرضين والعاملين إلى باحة ما كان يسمى مستشفى لحفر قبر جماعي لأطفال آخرين حولتهم الصواريخ الصهيونية الأمريكية إلى أشلاء.  نعم، بكل هذه القسوة يتحول الطبيب الأكاديمي الى حفار قبور. هم العمال الحقيقيون، عمال الشرف والضمير والطهارة.  لا تهمهم ساعات عمل أو أجر أو تقدير. يعملون وقد نضبت دموعهم وجفت أعينهم وغادر الخوف قلوبهم. فهم يدركون أنهم مشاريع شهادة وينتظرون دورهم، لإدراكهم أن معركة العدو ليست مع طرف أو فصيل، وإنما مع الإنسانية ومرتكزاتها وأولها المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس وأماكن النزوح.

وهذا ينطبق على نساء قطاع غزة كما على رجاله. بل إن تأثيرات حرب الإبادة تركزت بصورة كبيرة على النساء كونهن يحملن الجيل القادم، ولهن دور مركزي في النضال.  وهذا ما فرض على المرأة ادوارا متنوعة كمضحية ومناضلة وأم تسعى للحصول على متطلبات الحياة التي دمرها الاحتلال، هذا إن بقيت هي على قيد الحياة، إذ أن شهية الاحتلال مفتوحة على قتل النساء كونهن قادرات على المقاومة بشكل دائم من خلال إعادة تشكيل “العائلة ” البنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني، وهذا ما صرح به المقبور ارئيل شارون حين قال أن المرأة الفلسطينية والطفل خطران أكثر بكثير من الرجل فبقاء طفل واحد معناه استمرار عدة أجيال.

لقد فرضت الحرب العدوانية الصهيونية واقعا جديدا وقاسيا على نساءنا في قطاع غزة، خاصة ممن فقدن معيل العائلة استشهادا او اعتقالا او فقدانا، إذ تحول معظمهن الى عاملات، أجبرن على ممارسة أدوار جديدة في إعالة الأسرة والأبناء، وتوفير الطعام لهم ، إضافة إلى الأعمال الشاقة التي لا تتناسب مع طبيعة اجسادهن وبنيتها مثل تقطيع الأخشاب لإعداد الطعام، أو الوقوف في طوابير طويلة لنقل المياه، والمخاطرة بحياتهن لتوفير لقمة العيش، ناهيك عن أن عددا كبيرا من النساء يقمن بهذه الاعمال وهن مصابات أو فقدن اولادهن وأزواجهن خلال الحرب. نساءنا في غزة أصبحن عاملات مبدعات في انتاج العديد من الانماط المعيشية المقاومة كاستبدال الطحين بالقمح او بعلف الحيوانات وغيرها من الوسائل البدائية.  يوقدن النار من الحطب، يجمعن ما تقع عليه العين من عشب او حشائش لإبقاء الأبناء على قيد الحياة.

امرأة فلسطينية في غزة تقف على ركام منزلها المدمر، يسألها صحافي ماذا تفعل فوق هذه الأنقاض لتجيبه بعبارات تهز الجبال. قالت له: عدت إلى هنا لأجد منزلي ركام. وها أنا منذ يومين أحفر الحجارة بأظافري بحثا عن ابني، وقد ساعدني من تواجد هنا. واليوم عثرنا على جسده الذي بدأ بالتحلل، والحمدلله الذي أكرمني بالعثور عليه ودفنه”. فماذا تساوي إضرابات هايماركت ريوت وغيرها أمام مأساة وعظمة هذه الأم الفلسطينية المكافحة الصابرة، وأي مليون يوم للعمال يمكن أن يقارن بأيادي واظافر هذه الأم!

اما أطفال فلسطين كبروا ألف عام مع هذه الحرب، وتحولوا الى عمال مبدعين في تتبع الباراشوتات علهم يجدون فيها ما يسد الرمق.

هذه هي الصورة الجديدة للعامل الكادح في غزة مع حرب الإبادة، صورة قاسية ومؤلمة، لكنها تمثل ذلك الشرف الذي اضاعه العرب، فتوطن في فلسطين.

لقد كان العامل الفلسطيني حتى في الصورة التقليدية عاملا خلاقا مبدعا وشريفا. فمنذ نكبة عام ١٩٤٨ حمل اللاجئ الفلسطيني همه ومعاناته إلى حيث لجأ، مجبرا على ترك بيته وأرضه وزرعه وبستانه وماشيته ومؤسسته ووظيفته ليخرج بما عليه من ثياب، وأطفاله على اكتافه، مما حول الجميع إلى عمال يلاحقون لقمة عيش لأطفالهم.  فقد كان أهلنا يقولون لنا: خرجنا من فلسطين وخسرنا كل شيء، ولا نستطيع أن نعطيكم إلا العلم، فهو سلاحكم. وهكذا كان، إذ ساهم العامل الفلسطيني والموظف في الطفرة العمرانية والتنموية في دول الخليج، وشاركوا في بناء أسس النظام التعليمي والإداري في معظم تلك الدول، لا سيما في الكويت التي شكلت حاضنة قل نظيرها للعمل الفلسطيني.  وما زال عبق ذكريات هؤلاء العمال يفوح في أحاديث من عاصرهم من أبناء المجتمعات المحلية.

كذلك في لبنان حيث إسهامات أبناء شعبنا الفلسطيني على صعيد العلم والثقافة والابداع والاقتصاد والأعمال والزراعة والجوانب المهنية والحرفية لا يمكن حصرها أو عدها. وقد كانت مقالة الأستاذ طلال سلمان ” الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط ” رائعة في إبراز دور أبناء شعبنا في النهضة اللبنانية العامة، وخير معبر عن حقيقة أن الازدهار اللبناني لم يبدأ إلا بعد نكبة فلسطين عام ١٩٤٨ بسبب الدور الايجابي الذي لعبه شعبنا في لبنان. فشعبنا، وبحكم تجربته المتقدمة في صراعه مع موجات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، تمكن من إنضاج خبرة فريدة من نوعها في تمتين عناصر القوة الذاتية من علم ومعرفة وكد وعمل وجهد.

لقد ساهم العامل الفلسطيني في نهضة دول، واليوم يتعرض لحرب إبادة، يجلس البعض على مقاعد المتفرجين ليشهدوا ذبحه، والبعض الآخر ربما يتفحص السكين.

أبناء وعمال شعب فلسطين، قلاع تضحية وشرف، وللشرق تاج.

عضو اللجنة المركزية لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *