أقلام وآراء

ترقب واستعدادات في بكين بعد عودة ترامب

 

 بقلم: خليل حمد

لا ينقشع غبار الحروب الاقتصادية بسرعة، خصوصاً عندما تكون بين أكبر عملاقَين اقتصاديَّين في العالم، الولايات المتحدة والصين الشعبية، هذا هو الحال بانتظار الولاية الجديدة لدونالد ترامب بالنسبة للصين، بالنظر أيضاً إلى أن “استراحة ما بين الشوطين” لم تكن هانئة لبكين في ظل ولاية بايدن المنتهية.

يستل الطرفان أدواتهما استعداداً للمواجهة. ترامب عيَّن المستثمر هاورد لوتنيك المعادي للصين وزيراً للتجارة في إدارته القادمة، فيما درست الصين خططاً لتقديم إغراءات وحوافز اقتصادية لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، في ضربة استباقية لاحتمال أن ينفذ ترامب وعوده بإلحاق الضرر باقتصاد بكين، وتدابير مضادة وقوية تم سنها منذ الولاية الأولى لترامب، وستستخدم للانتقام من الشركات الأميركية، في حال قرر الرئيس العائد إشعال حرب تجارية معها.

وفي إطار توقع الأسوأ والتحذير منه جاءت تصريحات الرئيس الصيني شي جين بينغ من انتشار ما أسماه “الأحادية” و”الحمائية”، وتجزئة الاقتصاد العالمي المتزايدة. التحذير الصيني ورد في خطاب مكتوب ألقاه شي أمام قمة الرؤساء التنفيذيين لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ 2024. الإشارة هنا واضحة إلى ترامب الذي وعد بسنّ مجموعة من السياسات التجارية “الحمائية”، تشمل فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على واردات الصين إلى الولايات المتحدة.

لكن الاستعداد للأسوأ جيد، هذا يجعل “الجميع يتوقعون الأسوأ بالفعل، لذلك لن تكون هناك مفاجآت. الجميع مستعدون”، بحسب وانج تشونج، خبير السياسة الخارجية في جامعة تشجيانج للدراسات الدولية. رغم ذلك، تختلف الظروف التي بدأت فيها الموجة الأولى من الحرب الاقتصادية عن الوضع الحالي. في العام 2016 مثلاً فوجئت حكومة شي جين بينغ بالقرارات الاقتصادية العدائية تجاهها فور فوز ترامب بولايته الأولى، كفرض تعريفات جمركية أعلى وضوابط أكثر صرامة على الاستثمارات، مع عقوبات وقيود على الشركات الصينية. التوقع الصيني اليوم لاستراتيجية ترامب يعني هامشاً أوسع في الالتفاف على هذه القوانين أو البحث عن بدائل مسبقاً.

كما أن جائحة كورونا التي بدأت في نهايات ولاية ترامب وأثرت على اقتصاد العالم أدت إلى خسائر كبيرة في الاقتصاد الصيني أيضاً. اليوم ورغم معاناة الصين لاستكمال تعافي نموها بعد الجائحة إلا أن الوضع أفضل بكثير من أيام “الحجر الصحي” التي عانتها اقتصادات دول العالم، وتأثر بها كثيراً كل من الصين والولايات المتحدة، كأكبر اقتصادَين في الكوكب.

اختلفت المعطيات السياسية أيضاً خلال أربع سنوات فصلت بين ولايتي ترامب. تعقدت أزمة تايوان بين بكين وواشنطن، وأثارت إدارة جو بايدن حفيظة الحكومة الصينية أكثر من مرة عندما دعمت الأرخبيل الذي تعتبره الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وحاولت أكثر من مرة تخطي الخطوط الحمراء الصينية في هذا الملف، وهذا زاد من مستوى التوتر ونقله إلى مستوى عسكري متصاعد. أضف إلى ذلك الموقف الصيني المتفهّم لمخاوف روسيا من تمدد حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا، والذي أفضى إلى شراكة استراتيجية شبه واضحة المعالم في مواجهة كل عواصم الناتو وعلى رأسها واشنطن.

ما سبق لا يعني أن الصين ستتجه إلى كشف “ردودها الجدية التي لم تبدأ بعد” فور دخول ترامب مكتبه البيضاوي مطلع العام المقبل، فبكين لم تغلق باب الحوار بالمفتاح إلى غير رجعة. رسالة التهنئة من شي جين بينغ إلى دونالد ترامب “بادرة” حسن نوايا، قال فيها الرئيس الصيني حرفياً: “علاقة متوترة بين الولايات المتحدة والصين ستضر بمصالح البلدين. بينما تعلمنا عبر التاريخ بأن الشراكة تعود دائما بالخير للبلدين”. هي إذاً محاولة للتأكيد على أن الصين مستعدة دائماً للحديث في مختلف القضايا. “ستحاول الصين بالطبع التعامل مع الرئيس ترامب بأي طريقة، ومحاولة التفاوض”، وفقاً لوانج دونج، المدير التنفيذي لـ”معهد التعاون والتفاهم العالمي” بجامعة بكين. يضيف الرجل: “لكن إذا لم يتم تحقيق أي شيء من خلال المحادثات، كما حدث في عام 2018، واضطررنا إلى القتال، فسندافع بحزم عن حقوق الصين ومصالحها”.

ويرى المتخصصون في العلاقات الدولية أن استراتيجية إدارة ترامب تجاه الصين مرتبطة بالمسؤولين المقربين الذين سيعمل معهم على هذا الملف. لم يعلن ترامب بعد كثيراً من الأسماء في هذا الملف إلى جانب لوتنيك، لكن هناك من توصفهم بكين كأعداء لها في أي إدارة أمريكية، ويُتوقع أن يعيد ترامب تجربة الاعتماد عليهم في إدارته الجديدة، ومن بينهم مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، وروبرت لايتزييه مستشار التجارة الخارجية السابق أيضاً. الأكيد إذاً أن شكلاً من أشكال المواجهة قادم لا محالة، وهو ما سيشكل ضغطاً على الصين وعلى العالم أجمع، لكون أي مواجهات اقتصادية بين الكبار تؤثر حكماً على الدول الأضعف اقتصاداً.

لكن فكرة أن ترامب سيتفرغ لمواجهة الصين في ولايته الجديدة، قد تعني بالنسبة لمنطقتنا أحد أمرَين: إما تفويض مفتوح لـ “إسرائيل” باستمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وإما تبريد لبؤر الحرب في إطار حشد الإمكانات العسكرية والاقتصادية للمواجهة “الأهم” بنظر الرئيس الجمهوري العتيد. أما نحن، وبانتظار موعد التنصيب، فلا خيار أمامنا إلا الاستمرار بالتمسك بحقوقنا المشروعة والعمل على انتزاعها بكل السبل الممكنة.

زر الذهاب إلى الأعلى