أقلام وآراء

ازدواجية المعايير الأمريكية.. وعدالة الجنائية

 

   بقلم: د.فريد اسماعيل

في الوقت الذي كان فيه المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين يجول في العاصمة اللبنانية بيروت متنقلا بين مسؤول وآخر في محاولة لسد الفجوات والثغرات في الموقف من الورقة الأمريكية المطروحة لإنهاء الحرب على لبنان ووقف إطلاق النار، وقبل انتقاله الى اسرائيل لاستكمال التفاوض غير المباشر حول هذه الورقة، كانت دولته التي اوفدته لإنهاء الحرب على لبنان، تفشل مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، رغم حصول المشروع على تأييد كافة الدول الأعضاء في المجلس.

هذه الازدواجية تكشف قبح وبشاعة النهج السياسي للإدارات الأمريكية مهما اختلفت وجوهها. فمن جهة، عمل دؤوب على وقف لإطلاق النار في لبنان، واصرار على استمرار الحرب على غزة. وسيط وحمامة سلام بين لبنان وإسرائيل، وشريك في حرب الإبادة على شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة. والمعضلة هنا ليست في مدى نجاح أو فشل هوكشتاين في إبرام صفقة حول لبنان ومدى توافقها أو اختلافها مع مخططات دولة الاحتلال، وإنما في هذا التناقض في المواقف الأمريكية بين لبنان وغزة، مع أن العدو واحد والمعتدي واحد والقاتل واحد.

هذا التناقض لا يأتي على خلفية حرص الولايات المتحدة على لبنان وشعبه، فمصلحة إسرائيل هي الأساس في أي موقف أو تحرك أمريكي. لذلك فإن محاولة التعمق أكثر في طبيعة ما يبدو تناقضا أو محاولة فهم جوهر التحرك الأمريكي، تضعنا أمام اختلاف جوهر أهداف نتنياهو ودولة الاحتلال من الحرب على فلسطين ومن الحرب على لبنان.

من هنا نجد أن المقاربة الإسرائيلية للحرب على لبنان تختلف عن مقاربتهم واهدافهم في غزة والضفة. فالهدف الإسرائيلي في جنوب لبنان يختزل بإضعاف حزب الله باعتباره الذراع الابرز لإيران، وابعاده عن جنوب الليطاني باتجاه الشمال، وانتشار الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل بشكل كامل في المنطقة ما بين الحدود وجنوب النهر وضمان عدم عودته، ومن ثم ضمان أمن الإسرائيليين الذين سيعودون إلى أماكن اقامتهم في الشمال. لذلك فإن الجهد الأمريكي اليوم قائم على ضمان تحقيق هذه الأهداف من خلال تنفيذ القرار ١٧٠١ مرفقا بالورقة الأمريكية التي يعمل هوكشتاين على توافق الأطراف عليها، لا سيما وأن إسرائيل ورغم صعوبة المواجهات وصلابة التصدي، تمكنت من توجيه ضربات قاسية للحزب، وتدميرها وبشكل شبه كامل لأكثر من أربعين بلدة وقرية لبنانية على طول الخط الحدودي، كما ان عملية النزوح الضخمة والتي طالت أكثر من ربع الشعب اللبناني في ظل واقع اقتصادي منهار، تشكل عاملا ضاغطا على أبواب فصل الشتاء.

أما الولايات المتحدة واستنادا الى وضوح حدود الأهداف الإسرائيلية في الحرب على لبنان، تجد أن ما حدث على الأرض من متغيرات يسمح بالانخراط في مفاوضات غير مباشرة لإنهاء القتال واستكمال تحقيق الأهداف بالتفاوض على تنفيذ القرار ١٧٠١ مع آليات ضامنة لتنفيذه من خلال الورقة الأمريكية. من هنا يأتي هذا الجهد الأمريكي والدولي بمنع إسرائيل من تدمير البنى التحتية للبنان كما حدث في قطاع غزة، وبالتالي إبقاء هذه الحرب ضمن دائرة تحول دون تحولها إلى حرب مفتوحة من الصعب التنبؤ بارتداداتها على الصعيد الاقليمي أو حتى على الصعيد اللبناني نظرا لتركيبة المجتمع الطائفية والمعقدة. لذلك تاتي التحركات الأمريكية في سياق تحقيق المصلحة الإسرائيلية وليس اقتناعا بحقوق الدول وشعوبها بالعيش بأمان وكرامة.

أما في فلسطين، فالإدارة الديمقراطية الأمريكية التي تعيش اسابيعها الأخيرة، تخلع عباءة السلام التي تلبسها في لبنان لترتدي البزة العسكرية في غزة لتصبح شريكا كاملا للاحتلال في جرائمه ضد شعبنا، كما وتوفر له الحماية باستخدامها لحق النقض الفيتو ضد مشروع قرار بوقف إطلاق النار في غزة. هذا السقوط الأمريكي يؤكد أن مجلس الأمن الدولي لم ولن يكون قادرا على القيام بواجباته في حفظ الأمن والاستقرار على أساس فرض العدالة وضمان حق الشعوب في تقرير مصيرها طالما أن هناك دولا بعينها تهيمن على القرار الدولي من خلال امتياز حق النقض، هذا الواقع الذي لن يتغير قبل اكتمال تشكل عالم جديد متعدد الأقطاب يستطيع فرض إعادة هيكلة شاملة للنظم الحاكمة في العالم والمتحكمة بمصائر الأمم والشعوب.

من الواضح أن هذا الموقف الأمريكي يهدف إلى إعطاء المزيد من الوقت لنتنياهو وحكومته لفرض وقائع على الأرض تساهم في تكريس عملية الضم وتصفية القضية الفلسطينية، كما يراهن نتنياهو على استكمال ترامب، حين تسلمه للسلطة، لسياساته السابقة ودعمه لضم إسرائيل لمناطق المستوطنات في الضفة الغربية، إن لم يكن لمجمل الضفة وغزة كما يحلم سموتريتش وبن غفير وغيرهما من عتاة مجرمي الحرب الصهاينة.

أما نحن، فما نحن فاعلون!

في خضم هذه الهجمة الصهيونية الأمريكية، لا بد من الاستثمار في الفرص المتاحة من خلال صياغة رؤية فلسطينية واضحة تحاكي من ناحية تشكيل التحالف العالمي لتجسيد إقامة الدولة الفلسطينية والذي يتزايد عدد الدول الداعمة له والمنخرطة في إطاره ، ومن ناحية أخرى تعزيز وتوسيع إطار الحرب القانونية التي نخوضها في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية ضد دولة الاحتلال واركانها منذ العام ٢٠١٥، والتي أثمرت إنجازا كبيرا باتخاذ الجنائية الدولية قرارا باعتقال نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب.  وهذا يعني أنهم لن يتمكنوا من لحظة صدور القرار من السفر إلى ١٢٤ دولة تحت طائلة الاعتقال.  وقد أعلنت العديد من الدول ومن ضمنها البعض الداعم لدولة الاحتلال كبريطانيا وكندا الالتزام بقرار المحكمة الجنائية.

وما يؤكد أهمية هذا الانتصار وتأثيره على دولة الاحتلال، ذلك الجنون في تصريحاتهم حيث دعا سموتريتش إلى اتخاذ اجراءات ضد السلطة الوطنية الفلسطينية ودفعها إلى حد الانهيار ردا على قرار الجنائية الدولية مشيرا إلى أن السلطة كرست جهودها لمقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية.

إنه انتصار يسجله شعب فلسطين والقيادة الفلسطينية في معركة قانونية طويلة ومريرة، يضاف إلى انتصاره في معركته الدبلوماسية بإشغال دولة فلسطين لموقعها ومقعدها الطبيعي بين دول العالم في الأمم المتحدة. انتصارات في أشكال نضالية متعددة تضاف إلى مقاومته الشعبية المستمرة في مواجهة قطعان المستوطنين، وصموده وتشبثه بالأرض في وجه حرب الإبادة والاستيطان.

بالمحصلة، الاحتلال ليس قدرا، والولايات المتحدة لن تستطيع إطفاء شعاع النور، المهم أن يعيد البعض تصحيح البوصلة باتجاه المشروع الوطني الفلسطيني، الطريق الوحيد للاستثمار في الانجازات وتحقيق الأهداف الوطنية ودحر الاحتلال.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى