تجسيد قيام الدولة بمواجهة حرب حسم الصراع
بقلم: د. فريد اسماعيل
في مسرحية المفاوضات حول وقف إطلاق النار، يتلاعب رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو بالوسطاء وبداعميه، في عملية استنزاف للوقت أملا بتحقيق أهدافه من تهجير واستيطان وتقويض للسلطة الوطنية دفعة واحدة إذا ما وصل دونالد ترامب إلى دفة القيادة في الانتخابات الأمريكية المقبلة، لا سيما وأنه تلقف اشارات ترامب وتصريحاته حول صغر مساحة دولة الاحتلال وضرورة توسعتها. وحتى ذلك الموعد، تسابق إسرائيل الزمن وتسارع الخطى عبر حرب الإبادة والتجويع والقتل والتدمير والتطهير العرقي وتوسيع الاستيطان، وعبر تشريعات بمنع إقامة دولة فلسطينية وتحويل الإدارة العسكرية للضفة إلى الادارة المدنية للحكومة، وتعيين حاكم عسكري في غزة، لفرض وقائع جديدة يعتقد أنه من خلالها، وبدعم من ترامب، تستطيع حسم الصراع وفرض الحل الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، كما وتراهن على قدرة ترامب على إدماج دولة الاحتلال في منظومة المنطقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا لا يعني بأي شكل أنه يمكن المراهنة على كاميلا هاريس، لأن دعم إسرائيل وحمايتها هو من الثوابت في السياسة الأمريكية بغض النظر عمن يحكم.
ومن هنا يعتقد نتنياهو اليوم أنه يمتلك الفرصة التاريخية الكبيرة لتحقيق أحلامه وأحلام اليمين المتطرف والصهيونية الدينية، لا سيما وأنه يروج لفكرة أن أحداث السابع من أكتوبر تعطيه الشرعية المحلية والدولية للقيام بما يقوم به، ويتكئ على جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو رفض الوجود الفلسطيني برمته. لذلك يمارس وحكومته اجرامهم دون كابح. يستمر في حرب الابادة في قطاع غزة وتحويله إلى مناطق غير قابلة للحياة، ويصعد من حرب التوسع الاستيطاني في الضفة، كما ويوسع من مروحة اعتداءاته على لبنان منتقلا إلى مرحلة جديدة استهلها بتفجير أجهزة البيجر والأجهزة اللاسلكية في عملية استهداف لمنظومة القيادة والسيطرة، وتسخين الجبهة بحجة تمكين سكان الشمال من العودة إلى تلك المناطق بعد أن هجروها منذ الثامن من أكتوبر.
يعلم نتنياهو وحكومته المتطرفة أن ما يسمى بجبهات المشاغلة لم تؤثر على مسار إجرامه أو على حجم حرب الإبادة والتطهير العرقي. لكن يبدو أنه لا مانع لديه من توسيع دائرة الحرب لتشمل لبنان وغيرها، شعورا منه بفائض القوة ولخشيته من مفاوضات أو حتى توافقات ربما تحصل تحت الطاولة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، لا سيما بعد تصريحات عديدة لمسؤولين إيرانيين بدأت بتصريح للمرشد علي خامنئي أبدى فيه استعدادا لاستئناف التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن برنامج إيران النووي، كما ذكر أنه “لا ضرر في تعامل إيران مع عدوها” وذلك بعد يوم من زيارة رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد آل ثاني لطهران. يضاف إلى تصريح المرشد، إعلان الرئيس الإيراني الجديد بزشكيان بأن إيران تحتاج إلى ١٠٠ مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، وهذا يعتمد على علاقتهم مع العالم والجيران، ليزيد من مخاوف نتنياهو وحكومته من ارتدادات محتملة، وإن كانت ضئيلة جدا، على شريكه في العدوان الولايات المتحدة الأمريكية. فسياسة التوريط واردة جدا في قاموس نتنياهو، لا سيما وانه يدرك تماما براغماتية النظام في إيران الباحث عن مخارج ملائمة من اصفاد العقوبات وعن مساحة أكبر على الخارطة الجيوسياسية الاقليمية. لكن ذلك كله يبقى ثانويا مقارنة بالهدف الأساسي لدولة الاحتلال وهو العمل على حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية. لذلك يبقى كابوسه الاكبر “الضفة والقطاع”.
ورغم الارتباك في المشهد، إلا أنه من الواضح أنه لا مصلحة لنتنياهو بإنهاء الحرب. وهو منذ البداية كان قد وضع أهدافا يعرف عدم إمكانية تحقيقها لكي يحافظ على مبرر للاستمرار في الحرب، أملا بتحقيق الهدف الأساس وهو حسم الصراع. لكن ما تحققه فلسطين على الجبهات الشعبية والدبلوماسية والقانونية يشكل جدارا منيعا أمام أحلام دولة الاحتلال. فلا يجب الاستهانة مطلقا بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وهو رأي تاريخي يؤكد المبادئ الأساسية للقانون الدولي، ويؤكد عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأن دولة الاحتلال ملزمة بإنهاء احتلالها غير القانوني بأسرع وقت. وفي تعليقها على هذا الرأي قالت صحيفة هآرتس ان قرار محكمة العدل الدولية يتجاوز أسوأ مخاوف إسرائيل، في تعبير واضح عن مدى قلق دولة الاحتلال من هذا الرأي حتى وإن عمدت إلى تجاهله.
اما الصفعة الأخرى التي تلقاها نتنياهو وحكومته المتطرفة فهو إشغال دولة فلسطين لمقعد رسمي بين الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذه ليست مجرد مسألة إجرائية وإنما لحظة تاريخية وإنجاز نضالي لفلسطين وقيادتها. ثم جاء الموقف السعودي على لسان ولي العهد بأن المملكة لن تقيم علاقات مع إسرائيل دون قيام دولة فلسطينية، ليسقط الرهان على إمكانية التطبيع والاندماج في المنطقة قبل حصول شعبنا الفلسطيني على حقوقه الوطنية وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة.
كل تلك المعطيات تؤكد بأن دولة الاحتلال لن تستطيع حسم الصراع عبر حرب الإبادة والتطهير العرقي. لكن في الوقت ذاته، على قوانا الفلسطينية أن توحد خياراتها ومساراتها، لا سيما وأنه أصبح واضحا أنه لم يعد هناك شريكا من الطرف الآخر لصنع السلام، كما لم يعد بالإمكان المراهنة ولو بالحد الأدنى على الولايات المتحدة لإدارة أي عملية سلام بغض النظر عمن يسكن او سيسكن البيت الأبيض.
أصبح لزاما على القيادة الفلسطينية اجتراح رؤية سياسية جديدة ركيزتها وقف الحرب العدوانية الصهيونية والإسراع في التوافق على ترسيخ قيام الدولة الفلسطينية في مواجهة حرب حسم الصراع الصهيونية، من خلال إقرار إجراءات قانونية تعزز مفهوم الدولة ومنها إقرار إعلان دستوري يتم العمل به إلى حين قيام الدولة المستقلة، والتي لا يعود قرار قيامها إلى دولة الاحتلال أو غيرها، وغير مشروط بموافقة أي دولة، كونه قرار سيادي فلسطيني صرف.
كذلك يتوجب على القيادة الفلسطينية تكثيف الجهود مع الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين لنيل اعترافها. ولا بد من البحث عن صيغة جديدة مبتكرة للدفع باتجاه عقد مؤتمر دولي للسلام تشارك في تنظيمه أطراف ودول متعددة. فقد أثبتت التجارب أن المؤتمرات التي احتكرتها الولايات المتحدة الأمريكية لم تؤدي إلا إلى المزيد من الأزمات والصراعات.