أقلام وآراء

حرب في الضفة أيضاً بأبعاد أخطر

 

بقلم: د. سنية الحسيني

تأتي أحداث الضفة الغربية الأخيرة ضمن سلسلة غير منقطعة من تاريخ ممتد من الاعتداء على حق الفلسطينيين، مثقل بالعنف والقتل والتدمير، قائم على روايات ملفقة ومضللة وخادعة، متحصن بدعم ومساندة غربية بريطانية – أميركية مكشوفة. مع انطلاق أكبر عملية عسكرية يشنها الاحتلال ضد الضفة الغربية منذ العام 2002، بدأ منذ يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، ضمن عملية متواصلة تركز بشكل أساسي على شمال الضفة الغربية، ومخيماتها، وتنتهج تدميراً واسعاً للبنى التحتية للمدن والقرى والمخيمات. ويدعي الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، مدعومة من إيران وتنوي شن هجمات على أهداف في المستوطنات المقامة على أرض الفلسطينيين، ولم تقدم كعادتها أي دليل على ذلك. وحسب صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية تعتبر سلطات الاحتلال منطقة الضفة الغربية اليوم منطقة قتال والجبهة الثانية الأكثر أهمية بعد قطاع غزة، وتؤكد نقلاً عن مسؤولين عسكرين أنّ العملية مستمرة وليست سوى البداية.
وفي تطور متصل استعرض بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يوم الإثنين الماضي وأثناء تصاعد تلك الأحداث خارطة لفلسطين التاريخية لم تظهر عليها أي من المدن الفلسطينية في الضفة، أو أي إشارة للأراضي الفلسطينية، وظُللت الخارطة كلها بلون مختلف عن اللون الذي ظُلل به قطاع غزة والذي لُون بنفس لون الظلال المستخدم للأردن. هذه ليست المرة الأولى التي يلغى فيها أي أثر فلسطيني من خارطة فلسطين، فقد فعل نتنياهو ذلك أيضاً أمام دول العالم في افتتاح دورة الجمعية العامة السنوية العام الماضي، قبل أيام من أحداث السابع من أكتوبر، لكنها الأولى التي يرتبط فيها القطاع بالأردن، ويفصله عن الضفة.
تأتي أهمية تلك الخارطة التي رفعها نتنياهو بعد بدء الهجمات الحالية التي يواصل الاحتلال شنها في الضفة الغربية، بتقاطعها مع دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس لإخلاء الضفة الغربية من أهلها، والتعامل معها كغزة باعتبارها «حربًا كاملة الأركان». وفكرة تهجير الفلسطينيين عن وطنهم ليست فكرة بعيدة عن أذهان قادة وحكومات الاحتلال. وطُرحت تلك الفكرة ليس لتهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة فقط، بل أيضاً من داخل الخط الأخضر، عندما طُرحت كخيار في المفاوضات. بعد حرب عام 1967، وضع إيغال آلون، وزير العمل الإسرائيلي آنذاك خطة تحمل اسمه تقسم من خلالها الضفة بين إسرائيل والأردن. وفي الثمانينات من القرن الماضي، اعتبر أرئيل شارون أن الأردن هو فلسطين. وفي العام 1982 اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحق شامير أن وطن الفلسطينيين في الأردن. وأرجأت لجنة الخارجيّة والأمن في الكنيست مناقشة موضوع تحت عنوان «الأردن هي فلسطين». وتشير المعطيات الأخيرة إلى زيادة عدد الفلسطينيين الكلي في جميع أنحاء فلسطين مقارنة باليهود، وارتفاع نسبة الزيادة السكانية لدى الفلسطينيين مقارنة باليهود، الأمر الذي سيزيد حجم الفجوة بين أعداد الطرفين لصالح الفلسطينيين، وهو ما يمس مباشرة مستقبل كيان الاحتلال واستمراره. وطُرحت فكرة التهجير مرة أخرى خلال الحرب الجارية في غزة حالياً، الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيراً حول مدى إمكانية التفكير فيها للضفة الغربية، وهي المنطقة التي يحاول الاحتلال ضمها منذ احتلاله لها في العام ١٩٦٧، وتصاعد ذلك بشكل جلي بعد اتفاق أوسلو، ووصل لمستوى خطير مع وصول حكومة نتنياهو اليمينية الحالية للسلطة.
لا يمكن فصل التطورات الحاصلة اليوم في الضفة عن تصعيد الاحتلال الذي بدأ مع أحداث السابع من أكتوبر العام الماضي. ففي أكبر حصيلة تبلغها الضفة منذ أكثر من عقدين، ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية فقط منذ ذلك الوقت لـ 682 شهيداً، وأكثر من 6000 جريح، وتخطى عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الـ 10 آلاف، يعانون أصنافاً من العذاب الذي تخطّى في وصفه ذلك الذي شاع في سجن أبو غريب. كما لا يمكن عزل ذلك عن تطورات الحرب في غزة، وإصرار نتنياهو على مواصلتها، وعدم استجابته لنداءات الشارع الإسرائيلي، الذي يتصاعد احتجاجه يوماً بعد يوم، مطالباً حكومته بعقد صفقة تبادل وبوقف لإطلاق النار في غزة. ويتحصن نتنياهو، الذي لا يريد أن يترك الحكم، بتحالفه اليميني المتطرف، الذي يضمن له استقرار حكومته، والأغلبية في الكنيست. كما يضمن بقاء جبهات الحرب مفتوحة واستمرار التصعيد بقاء الحكومة الحالية على رأس عملها، دون مساءلة أو محاسبة.
ويمكن اعتبار توجهات نتنياهو للتعامل مع غزة مؤشراً لطريقة تفكيره تجاه الضفة، فرغم عدم كشفه صراحة عن نواياه تجاه غزة، إلا أن تصريحاته المبعثرة تدلل عليها، فأكد على أن القطاع سيكون تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية بعد الحرب، مع تعيين حاكم أو مسؤول لغزة، وبقاء القطاع منزوع السلاح، مع مواصلة حرية العمل العسكري فيه، والتحكم والسيطرة على حدود القطاع مع مصر، والسماح بالتدخل الدولي أو الإقليمي الإنساني، الذي يرفع عنه عبء تحمل مسؤولية وتبعات التدمير الذي أحدثه في القطاع أولاً والاحتلال بعد ذلك، مع السماح بإعادة تأهيل القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية. ولا يمكن أن نغفل التصريحات التي جاءت في بداية الاعتداء على غزة حول تهجير الفلسطينيين منها، وحملة التدمير الواسعة التي يشنها الاحتلال على مدار أشهرها الـ 11 لتحويلها لمكان غير قابل للحياة.
كما لا يمكن تجاهل موقف نتنياهو وحكومته من السلطة الفلسطينية، فرغم التفاهمات والتنسيق المفترض مع السلطة، وفق ما أرسته اتفاقية أوسلو، إلا أن نتنياهو يتعمد تجاهل السلطة وعزلها عن صدارة الأحداث، بدأ ذلك مع صعوده وحكومته للحكم نهاية العام 2022 وبات ذلك واضحاً بعد أحداث السابع من أكتوبر، وتخطى الحدود بعد اجتياح الضفة الحالي. قد يعكس مقال كتبه دنيس روس مؤخراً، ويحمل رسالة عن السلطة الفلسطينية، توجهاً مهماً لحكومة نتنياهو والإدارة الأميركية. وروس يهودي أميركي ويؤمن بالصهيونية، ودبلوماسي سابق، وطالما انخرط بالتنسيق بين الفلسطينيين والإسرائيليين في إدارات متعددة، ويعمل حالياً في مراكز تفكير أميركية قريبة من إسرائيل. وجه روس في مقاله الأخير اتهاماً مباشراً لدبلوماسيين فلسطينيين بدعم «الإرهاب»، بعد أن قام بتتبع تصريحاتهم ومواقعهم للتواصل الاجتماعي. لا يأتي وقت نشر المقال عبثاً، فقد جاء خلال العملية الحالية للاحتلال في الضفة، كما أن شكل المقال مقصود، والذي يوحي بأنه ليس مقالاً للرأي بقدر كونه بحثاً وتتبعاً للمعلومات، ولا يخرج انتشاره وترجمته لعدة لغات عن ذات السياق المقصود له. تأتي حساسية المقال بالنسبة للسلطة الفلسطينية، في أن روس تتبع تصريحات أعلى مسؤولين في وزارة الخارجية، الذين يمثلون سياسة السلطة الرسمية على الصعيد الدولي.
هل يأتي توجه نتنياهو وحكومته تجاه عزل السلطة الفلسطينية بالتقاطع مع مقاربته التي تخلت عن ترسيخ حالة الانقسام بين السلطة وحركة حماس، أو بين الضفة وغزة، فقرر القضاء على حماس في غزة، والتخلص من السلطة في الضفة؟ وإن كان ذلك صحيحاً فما هو المخطط المحتمل المجهز بدلاً من ذلك؟
ليس من المفهوم كيف يمكن أن يتم شن حرب على الضفة الغربية كغزة، فالضفة تقع بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية، ومقسمة الأوصال، ومدنها وقراها محاطة بالمستوطنات والمواقع العسكرية والحواجز والبوابات الحديدية، محاطة شوارعها وأزقتها بالكاميرات، ويخضع أثيرها لتتبع، وكل فرد فيها معروف لدى قوات الاحتلال، الأمر الذي يفسر صعوبة الحركة والعمل بحرية. إلا انه من المفيد مراجعة بعض الحقائق التي تتعلق بنتنياهو كرئيس للحكومة، الذي اعتبر في العام 1995 أن «دولة لمنظمة التحرير يمكن أن تقام على بعد 15 كيلومتراً من شواطئ تل أبيب ستشكل خطراً مميتاً مباشراً على الدولة اليهودية»، وأكد مراراً وتكراراً أنه «لن تكون هناك دولة فلسطينية». ويمكن ربط ذلك بسياسة نتنياهو وحكومته بعد وصولهم للحكم نهاية العام 2022، وتتبع سياستهم، التي نقلت سياسة الضم الزاحف، والقائمة على أساس التوسع الاستيطاني، وتقوية المستوطنين في الضفة الغربية ومدينة القدس لحد المواجهة والتصريح، والتي اعتبرت منظمة «ييش دين» الإسرائيلية أنها قد تؤدي لقمع وتشريد الفلسطينيين. وفي غياب الضغوط الدولية المنسقة، وخاصة الضغوط الأميركية، على نتنياهو للحصول على وقف إطلاق النار وإنهاء الهجوم الإسرائيلي الجديد على الضفة الغربية، فمن المرجح أن يخرج الوضع عن السيطرة.

 

الايام

زر الذهاب إلى الأعلى