أقلام وآراء

الحسابات الإقليمية.. والإعلام المضلل

بقلم: د. فريد إسماعيل

” الوحدة”.. وحدة الأمة العربية…وحدة الأمة الإسلامية.. الوحدة القومية.. وحدة المصير.. وحدة المسار.. وحدة الشعوب…وحدة الساحات.. كلها مصطلحات وشعارات خرقت آذان المواطن العربي منذ زمن اجداد أجدادنا وحتى يومنا هذا، مع اختلاف فقط في الزمان وطبيعة المرحلة. لم ينجح أي منها في عبور بوابة الطرح النظري الاستثماري المدعوم بإعلام موجه إلى باحات الإنجاز الفعلي، لأن الحسابات الدولية والإقليمية على أرض الواقع تختلف بل تتناقض، في معظم الاحيان، ومصالح الشعوب المقهورة الحالمة بغد أفضل.

فمنذ اندلاع الثورة العربية الكبرى عام ١٩١٦، استخدم الاستعمار مصطلح ” الوحدة” و” الدولة العربية الكبرى” ليتحول الشباب العربي المتحمس إلى حطب في مواقد المشاريع الاستعمارية لا سيما البريطانية.  وفي عام ١٩٤٨ توحد بعض العرب في جيش انقاذ مدجج بسلاح فاسد وبعض قيادات سلمت أراض من فلسطين، رغم بطولات العديد من الكتائب والجنود العرب الذين قدموا أرواحهم فداء لفلسطين.

ورغم انكشاف الأهداف الكامنة خلف تلك الشعارات، إلا أن بعضنا لا يزال حتى اليوم يتبنى تلك المصطلحات ويرفض استخلاص الدروس والعبر. فكلمة ” وحدة” هي نقيض تجزئة “. لذلك فمن غير الجائز في إطار أي ” وحدة” تجزئة الأهداف أو الأساليب أو الإجراءات مهما كانت المبررات، خاصة إذا ما حصلت أحداث أدت إلى اعلان حرب على شعب بأكمله كما يحصل الآن في فلسطين. فقطاع غزة أصبح في معظمه مناطق غير قابلة للحياة، وفي الضفة الغربية يصعد العدو من جرائمه بشكل غير مسبوق، بعد إقراره لتشريع يحول الضفة من الحكم العسكري للجيش إلى الإدارة المدنية للحكومة الإسرائيلية بإشراف سموتريتش، في عملية ضم غير معلنة. كما استكملت تلك الخطة بتعيين إسرائيل للضابط غورين مديرا للإدارة المدنية في قطاع غزة مشيرين إلى أن هذا التعيين ليس مؤقتا وإنما لفترة طويلة. فهل أثرت ” تجزئة ” وحدة الساحات وتحويلها إلى جبهات مشاغلة في كبح جماح دولة الاحتلال!! أو هل غيرت في مسار حرب الإبادة والتطهير العرقي!!  ربما يجيب البعض بأن جبهات المشاغلة أدت إلى تهجير سكان الشمال.  هذا صحيح، لكن قابل ذلك تهجير أهالي الجنوب اللبناني. ويبقى السؤال، هل قلص ذلك من عمليات قتل عشرات آلاف المدنيين العزل، ناهيك عن حرب التجويع وانتشار الأوبئة والدمار الشامل والنزوح اليومي المستمر، أو منع العدو من الاقتحام المتكرر للمسجد الأقصى ولمناطق واسعة في الضفة، وممارسة أبشع أنواع التطهير العرقي!!! نستعرض ذلك ليس انتقاصا من تضحيات المقاتلين الذين يواجهون العدو في اي جبهة، ويرتقي منهم الشهداء كل يوم، لكننا نتساءل أنه لو تم افتراضيا الالتزام بمفهوم ” وحدة الساحات” والذي يعني المصير الواحد، ويحول كل الساحات إلى ساحة واحدة، وتم فتحها بالتزامن مع بداية الحرب الصهيونية العدوانية على شعبنا الفلسطيني باعتبار غزة جزءا من ذلك المحور، أولم يكن ذلك ليغير الكثير من النتائج ومن مسار الحرب!! لكن يبدو أن مركز الحسابات الإقليمية يرى عكس ذلك.

يحق لنا كأصحاب حق أن نوجه تلك التساؤلات في ظل قرار دولة الاحتلال الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه بتصفية قضيتنا.

يقول البعض في ذلك المحور أنهم لن ينجروا إلى ملعب نتنياهو الذي يريد توسعة إطار الحرب لتتحول إلى حرب شاملة أو إقليمية. غريب هذا الامر، وغريب مفهوم الحرب الشاملة لديهم. اوليس ما تقوم به دولة الاحتلال من حرب إبادة وتطهير عرقي هو حرب شاملة على الوجود الفلسطيني برمته!! أولم يتشكل ذلك المحور بحجة مواجهة الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتحدة الأمريكية، والدفاع عن فلسطين وشعبها ومقدساتها!!

الأغرب من ذلك، هو قباحة بعض وسائل الإعلام التي يسكن عقلها الشيطان خلف قناع ملائكي.  فهذا الجزء من الإعلام يعيد تفريخ نماذج التضخيم والتضليل في زمن الأزمات والحروب. فهم يستنسخون نماذج شبيهة بأحمد سعيد المذيع الشهير في صوت العرب في زمن نكسة عام ١٩٦٧، الذي كان ينقل أخبار الانتصارات العربية المبهرة في حرب الأيام الست، ليكتشف المواطن العربي بعد أن وضعت الحرب أوزارها حجم الهزيمة المدوية التي لحقت بالعرب في تلك الحرب، أو نموذج آخر شبيه بوزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف القائم على تعظيم الذات وتضليل الشعوب بقدرات واستراتيجيات تسقط العقل العربي في مستنقع السذاجة السياسية.

اليوم يمارس بعض الإعلام التابع لدول معينة ذات النهج، ويبرع في إنتاج توصيفات وشروحات ومصطلحات تتلاعب بعقول الشعوب العربية التي تنساق بعاطفة الإرث الانهزامي لتصديق ما يقال لها في عملية غسل ممنهجة للعقل العربي الجمعي، فيتحول الكائن إلى مارد والحركة إلى جيش، فلا يبقى لا ماردا ولا جيشا، ولا يكاد يبقى من القطاع إلا اطلالا شاهدة على حجم الإبادة وآلاف الجثامين الطاهرة تحت الركام. فهذا الإعلام كالجزيرة وأخواتها يحول المقاومة إلى كيان يوازي قوة الاحتلال ذي القدرات العسكرية الهائلة والمدعوم من الولايات المتحدة، من خلال طرح إعلامي قائم على تضخيم وغلو قدرات المقاومة يتكفل به جيش من المراسلين والمحللين السياسيين والعسكريين مدفوعين الأجر.  فالمتابع لقناة الجزيرة وأخواتها في الأيام القليلة الماضية، ومع التصعيد الصهيوني الكبير والخطير في الضفة الغربية، يعتقد بأن المقاومين يقاتلون بالصواريخ الدقيقة والذكية والدبابات والمسيرات، ولا يعلم أن جل ما يملكه ذلك المقاتل بندقية وبضع رصاصات تم شراؤهم من السوق السوداء الإسرائيلية.  ففي الحقيقة، هذه الدول (وتحديدا تلك الدولة الصغيرة) تسخر الإعلام كقوة ناعمة في خدمة أجندتها القائمة على طي الوعي والادراك العربي بما يتناسب مع مصالحها، والساعية لخلق ” فراغات حكم” تملأها عبر سلطتها ونفوذها السياسي والمالي على بعض الجماعات وفي طليعتها الإخوانية، من خلال منحها شعبية متضخمة عبر وسائل اعلامها.  وهذا ما حصل على صعيد المثال في مصر حيث انهار النظام الاخواني الذي لم يستطع التعاطي مع إدارة الدولة وتحدياتها بعد أن بان حجمهم الطبيعي.  فالمأساة اليوم لا تتمثل فقط بالحرب واهوالها وضحاياها، بل وأيضا بارتدادات الدمار وما سينتج عنه من تحديات حقيقية، لا سيما في اليوم التالي للحرب.

يبدو أن مراكز الحسابات الدولية والإقليمية نجحت في خلق وتسخير جزء كبير من الإعلام للتأثير في الوعي الجمعي من خلال عملية تضليل ممنهجة تخدم تلك الحسابات على حساب الدم الفلسطيني.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى