أربعون عاما على استشهاد ماجد أبو شرار
رام الله – يامن نوباني – في سبعينات القرن الماضي، قال الأديب الثوري ماجد أبو شرار المولود سنة 1936 في بلدة دورا جنوب مدينة الخليل، “أرفض أن أكون أحد المشاهدين لمباريات كرة القدم، بل قلب الهجوم في الفريق”، في إشارة لدوره الفاعل في مسيرة الثورة.
في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 1981، انفجرت قنبلة وضعها الموساد الاسرائيلي تحت سرير أبو شرار في أحد فنادق روما، أثناء مشاركته في مهرجان تضامني مع الشعب الفلسطيني، ودفن في مقابر الشهداء في بيروت.
في رسالة سابقة لوالدها، تقول سماء ماجد أبو شرار، المقيمة في بيروت: أنا وسلام وعزة وداليا، كبرنا ولم تكن شاهدا على ذلك كباقي الآباء. سلام يتنقل من بلد إلى آخر حاملا في جعبته حلمك بعالم أفضل وفلسطين محررة، أنا وعزة ودالية حققنا بعضا من أحلامنا ونعمل على تحقيق ما تبقى منها. عزة أصبح لديها كرم، ودالية أصبح لديها كرمة، أما أنا فأصبح لدي مينا ذات الأعوام العشرة.”
“وفا” كانت قد حاورت سابقا سماء عن ماجد.. طفولته، وعلاقاته، وأمنياته، وحياته، وتشعباتها:
عن علاقته بأهله وبلده دورا والأصدقاء قالت سماء: ماجد كان الحضن لأهله وعائلته، فكان على سبيل المثال يطير من الفرح عندما يأتي أحد من دورا أو فلسطين للزيارة، كان مرتبطا ارتباطا روحيا وعضويا بفلسطين وبدورا مسقط رأسه، حدثنا أكثر من مرة عن البطولات التي شهدتها مدينته وحدثنا عن بطولات الشهيد باجس أبو عطوان ضد الاحتلال الإسرائيلي. كان يروي لنا هذه القصص بطريقة سلسلة وجذابة للأطفال. كان معنيا جدا أن نحافظ على هويتنا الفلسطينية بالرغم من حبه للبنان وللبنانيين وإيمانه بالعلاقة اللبنانية/الفلسطينية، سمعني مرة أتكلم باللهجة اللبنانية، وقال لي بالحرف الواحد: “إن أردت التحدث باللهجة اللبنانية، أفعلي ذلك في المدرسة، داخل البيت لا نتحدث إلا باللهجة الفلسطينية”. صحيح أننا لم نقض الكثير من الوقت مع ماجد، لكنه زرع فينا الحب لفلسطين، وضرورة أن نفتخر بأننا فلسطينيون نحمل قضية عادلة يجب أن نناضل من أجلها كل حسب إمكانيته وبالأسلوب الذي يلائمه.
حنان ماجد لم يقتصر علينا بل شمل الكثير من الأطفال المحيطين بنا من أبناء الشهداء، وغيرهم، والأطفال بشكل عام بالإضافة الى ذلك، كان دائما يحاول تعريفنا كأطفاله بكل ما هو جديد، وكان يحضر لنا الأفلام الجديدة. للعلم ماجد هو الأخ الأكبر في عائلة كبيرة وبالتالي منذ شبابه المبكر يعتبر نفسه مسؤولا عن إخوته وأخواته، كان الحضن لغالبيتهم “بسبب البعد الجغرافي عن بعضهم الآخر” كان الكثير منهم يلجؤون إليه للمشورة أو طلبا لحنان الأخ الأكبر.
ولكن تجب الإشارة هنا الى أنه كان حريصا جدا فيما يخصنا نحن كعائلة، رفض على سبيل المثال زيادة مصروفنا كأطفال، عندما طالبناه بذلك، بعد انتخابه عضوا في اللجنة المركزية، لأنه كما قال يخشى أن يفسر الناس ذلك بأنه استغلال لمركزه. من الأمور التي سمعتها مثلا فيما يخص هذا الموضوع بعد استشهاد ماجد أن إحدى السيدات المعروفات في منظمة التحرير الفلسطينية قالت خلال أيام العزاء للحضور إن ماجد من القلائل الذين لم يغيروا من أسلوب حياتهم بعد انتخابه عضوا في اللجنة المركزية.
هل كان ماجد يخاف من شيء؟ إلى أي مدى كان جريئا؟ سواء في حياته الشخصية او من موقعه المسؤول والقيادي؟
لا أدري إذا كان يخاف من شيء معين، ولكن ما أذكره عن ماجد، وما قيل لي لاحقا من قبل أصدقائه ومعارفه أنه كان جريئا للغاية في مواقفه السياسية، وهذا أمر يشهد له جميع من عرفه
ماذا يعني أن تكون ابن شهيد؟
أنا فخورة للغاية أنني ابنة شهيد، وشخصية وطنية لا غبار عليها، قد يختلف معها البعض سياسيا، ولكن الجميع يحترمها، ويحترم مواقفها الوطنية، لكنني أكذب عليك إن قلت لك أنه ليس حملا ثقيلا، أن تحمل إسم ماجد أبو شرار، وأن تحمل إرثه الكبير مسؤولية ليست سهلة، حتى لو لم تخترها أنت. بالرغم من الإرث الكبير الذي تركه ماجد لنا أتمنى وجوده بيننا، وكنت أتمنى لو كانت قد سنحت له الفرصة للقاء ابنتي مينا، وباقي أحفاده. هذه بالتأكيد غصة، ولكنني أستطيع اليوم أن أقول أنني تصالحت مع فكرة استشهاد ماجد، وغيابه عنا، بعد غضب شديد رافقني لسنين طويلة تلت استشهاده. وها نحن اليوم من خلال مؤسسة ماجد أبو شرار الإعلامية نحاول أن نكمل مسيرة ماجد الوطنية والإعلامية ليبقى معنا وبعدنا اسما وفكرا.
أصدقاء ماجد أين هم اليوم، من يتذكره ومن نسيه؟
بكل تواضع أقول أن من عرف ماجد أبو شرار من الصعب أن ينساه، هذا بشهادة كل من كان يعرفه، ماجد أبو شرار كان شخصية مميزة على الصعيد الوطني والإنساني وكان سباقا بمواقفه، اذا راجعت ما قاله خلال حياته ستتفاجأ أن الكثير منه ينطبق على ما تمر به القضية الفلسطينية اليوم والمشهد العربي والدولي. فيما يخص أصدقاء ماجد بعضهم توفاه الله وبعضهم الآخر في أنحاء مختلفة من العالم، بعضهم لا زال على تواصل معنا، ويكن كل الحب والوفاء لماجد ودائما يذكرون أن ماجد يُذكرهم “بالزمن الجميل”.
كان ماجد يعلم أنه مستهدف، مع ذلك لم يأخذ الاحتياطات اللازمة، بالعامية “كان موكلها ل الله” حدثينا عن هذه النقطة؟ هذا ما قيل لنا بعد سنوات من استشهاده، كان يتلقى الكثير من تحذيرات الأصدقاء المتابعين للصحافة الغربية وما تكتبه عنه وعن نشاطاته. وقيل لنا أيضا أنه تلقى النصح من قبل الكثيرين بعدم الذهاب إلى روما في رحلته الأخيرة أو بأخذ حراسة معه لكنه أبى إلا أن يشارك ورفض أن ترافقه حراسة خاصة وكانت هذه آخر رحلاته فقد تم اغتياله قبل أن ينتهي المؤتمر الذي ذهب للمشاركة فيه مع عدد من الكتاب والشعراء والصحفيين الفلسطينيين. كان على الأغلب يتوقع اغتياله يوما ما ولكن ذلك لم يفقده التفاؤل، ولم يغير كثيرا من أسلوب حياته خوفا من الاغتيال. حدث أكثر من مرة أن ينزل من البيت للذهاب إلى المكتب ولا يجد الشباب (سائقه وحارسه) ولا يتردد أن يمشي من كورنيش المزرعة حيث كان بيتنا إلى مكتبه في الجامعة العربية، لا أدري إن كان ذلك نوعا من الاستهتار أو التسليم بمشيئة الله ولكن هذا ما كان يحدث.
عن ماجد وتفاصيله الشخصية وأموره الحميمية، قالت أبو شرار: كان ماجد اجتماعيا بامتياز، كما كان سياسيا بامتياز، أحب الناس كما أحبوه ولهذا كان بيتنا ملتقى للسياسيين والمثقفين والاعلاميين، وبحكم عمله كان بيتنا دائما مليئا بالوفود الاجنبية التي كان يُصر على دعوتها إلى البيت وكان يطهو لهم المنسف بنفسه.
هنا لا بد من التشديد على أن ماجد كان فعلا وقولا رجلا تقدميا فلم يكن يقول ما لا يمارسه في حياته العملية والعائلية، بما في ذلك الوقوف في المطبخ لطهي الطعام، كان ذلك أمرا عاديا بالنسبة له، ويستمتع به.
وأضافت: كان يستمتع باستقبال الناس في البيت وبمشاويرنا مع الاصدقاء، لجأنا أكثر من مرة الى بيوت أصدقاء ماجد في الجبل (سوق الغرب/ عالية) بسبب سوء الأوضاع الأمنية في بيروت أو بسبب تهديد أمني ما، كان يفضل إبعادنا عن دائرة الخطر ما استطاع إليه سبيلا، ويعود فيما بعد ليلتحق بنا حين تسنح له الفرصة حتى لو كان ذلك لوقت قصير.
أكثر ما كان يستمتع به حفلات الشواء في الجبل وكان دائما يتبرع أن يقوم بتحضير سلطته الشهيرة (بندورة وخيار وبصل مع طحينة) بالإضافة الى تصدره غالبية الوقت شواء اللحم.
كان ماجد دائم الانشغال، لا أدري كيف كان يجد الوقت ليقضيه معنا. أحب الأطفال بالفطرة ولا أنسى مقولته الشهيرة “من يريد أن يستمر وينتصر فلينظر في عيون الأطفال”، تصور كيف كانت علاقته مع أطفاله، كان أبا حنونا وديمقراطيا في التعامل معنا، أعطانا خلال الوقت القليل الذي قضيناه معه قبل استشهاده المساحة الكافية والمدروسة لنفكر باستقلالية، لنكون مسؤولين عن قراراتنا الصغيرة في حينها، لم يلغ ذلك دوره الارشادي والتوجيهي الذي كان يمارسه بطريقة ذكية حتى لا يوحي لنا بأنه يصادر تفكيرنا. هذا أيضا لا يعني ان ماجد لم يكن حازما معنا في المواقف التي كانت تتطلب الحزم، ولكنه كان قادرا برأيي الشخصي أن يجد المعادلة السحرية التي تجمع بين الليونة والحزم والنفس الديمقراطي في التعامل معنا.
وحول هوايات ماجد قالت: لا أملك الإجابة الفعلية على هذا السؤال، ما أذكره أنه كان يحب المطالعة كثيرا ومشاهدة الأفلام وحضور المسرحيات، وكان يحب السفر كثيرا، يفعل ذلك غالبا بسبب عمله، وكان يستمتع بالسهرات التي تجمعه بالأصدقاء والأقارب، حسب ما قيل لي الأقرب إلى قلب ماجد كان الكتابة ولكن للأسف لم تسنح له فرصة التفرغ كما كان يرغب، سمعناه يقول أنه عندما يتقاعد يرغب في شراء بيت في قرية اسمها “فقاقيس” على تلة عالية قريبة من دورا للتفرغ للكتابة. ولكن للأسف اغتياله سرق هذا الحلم كأحلام أخرى كانت لديه.
وعن طباعه وملابسه وطعامه وطفولته وأوراقه ومكتبته، قالت سماء: كان ماجد بشكل عام هادئا ودبلوماسيا ولكنه لا يهادن أبدا في الأمور الجوهرية إن كان على الصعيد العائلي أو الوطني. كان يغضب في بعض الأحيان ولكنه يهدأ بعد دقائق معدودة. وأكثر ما كان يميز ماجد تواضعه الشديد. لا بد أيضا من الإشارة إلى أن ماجد كان كريما للغاية وهذا أمر يشهد عليه جميع من عرفه من أصدقاء ومعارف. سمعت بعد استشهاده أنه كان يعود إلى البيت آخر الشهر بنصف معاشه أو أقل بعد توزيع الباقي من جيبه الخاص على من يطلب منه المساعدة.
وفيما يخص لباسه كان أنيقا جدا، يحب انتقاء ملابسه بنفسه، وكان يحب بشكل خاص شراء الأحذية، في كل فرصة تتاح له يشتري حذاء جديدا. اذكر جيدا حبه لأكل السمك، غالبا ما كان يأخذنا الى مطعم سمك لتناول واحدة من وجباته المفضلة.
قضى طفولته في مسقط رأسه دورا قبل أن ينتقل مع أخته الكبرى يسرى إلى غزةـ ليلتحقا بوالدهما الذي كان يعمل هناك ـ وينهيا دراستهما الثانوية ثم غادر الى مصر برفقة أخته من أجل دراستهما الجامعية، حيث درس ماجد القانون. كان لدى ماجد مكتبة ضخمة فيها الكثير من الكتب الأدبية، تحديدا الأدب الروسي، والكتب السياسية المختلفة. بعد تركنا بيروت، تم نقل غالبية الكتب الى الأردن، حيث انتقلنا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. بالنسبة لأوراقه لا أعرف أين باتت اليوم وإن كانت موجودة.
حدثينا عن أصدقائه وعلاقته بالمثقفين والسياسيين والعسكريين وعن مكتبه في بيروت؟ …. سمعت من أصدقاء ومعارف ماجد أنه كان “الوحيد القادر على جمع الجميع من مختلف الأطياف والفصائل”، وأنه من “القلائل الذين باستطاعتهم التحدث إلى المثقف كما الى الشخص العادي كل بلغته”. كان لديه أصدقاء كُثر من الوسط الفلسطيني المثقف والعسكري والسياسي. ولإيمان ماجد الشديد بأهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية اللبنانية كان أيضا يتمتع بصداقات مع كثر من الطبقة السياسية والمثقفين والإعلاميين اللبنانيين. وكان بيت ماجد كمكتبه يستقبل فيه الجميع. يجب أن أشير هنا إلى علاقة ماجد المميزة مع النساء، كان نصيرا شرسا للمرأة وقضاياها وهذا ما تشهد به العديد من المناضلات اللواتي تحدثت معهن بعد استشهاده، كن يذهبن إلى مكتبه أو يأتين إلى البيت لأخذ المشورة أو من أجل موقف أو دعم ما. مكتب ماجد كان في شارع عفيف الطيبي حسب معرفتي في الجامعة العربية، وكان معروفا عنه أنه مكان لقاء للجميع.
إلى من كان يشتاق ماجد؟ وأي البلدان كانت الأحب لقلبه؟ لا أملك الجواب على السؤالين بإمكاني أن أخمن أنه كان يشتاق خلال وجوده في لبنان قبل اغتياله لوالديه وإخوته وبالطبع لدورا وناسها. وبإمكاني التخمين أنه كان يشتاق للوقت الحر الذي كان سيعطيه الفرصة لممارسة شغفه في الكتابة. كان يستمتع بوجوده في إيطاليا بسبب الشغل غالبا كما كان يستمتع برحلاتنا العائلية مع الأصدقاء إلى تونس هذا كل ما أستطيع قوله أو بالأحرى تخمينه حول الموضوع.
وفا