من نكبة إلى أخرى…فلسطين عصية على الكسر أو الاندثار

بقلم: د. فريد اسماعيل
ما بين النكبة الأولى عام ١٩٤٨ والنكبة الحالية، سبعة وسبعون عاما من النكبات والنكسات لم تتعظ من آلامها شعوب المنطقة ولا استخلص الحكام من عذاباتها العبر والدروس. وإذا كانت بعض النخب من فلاسفة السياسة والتحليل يبررون للنظام العربي ضعفه وعجزه ووجوده خارج دائرة الفعل المؤثر في زمن النكبة الأولى بحجة ارتدادات نتائج الحرب العالمية الثانية واحتكار الحلفاء المنتصرين في الحرب خارطة رسم النفوذ، وانشغال المنطقة بالانتقال من مرحلة الاستعمار والانتداب إلى مرحلة الاستقلال الوطني المرسوم بخرائط واقلام قوى الاستعمار والانتداب ذاتها، إلا أن ما تبع تلك المرحلة من نكبات ونكسات لا تزال تتراكم حتى يومنا هذا، والتي وإن كانت تلك القوى تمثل عاملا مؤثرا ومهما فيها، لا يمكن إسنادها بالمطلق لتلك القوى. فغياب المفاهيم الحقيقية للدولة المؤسساتية والمواطنة الفعلية كان لها الأثر الأكبر في تكرار النكبات والمآسي والنكسات المتعاقبة. فلو كان مفهوم “الدولة” لدى النظام العربي قائما لكان بإمكانه استشراف مخاطر المشروع الصهيوني منذ البدايات، ولوضع الاستراتيجيات المناسبة للمواجهة ودرء الأخطار. كذلك، فإن الدولة المؤسساتية الضامنة للمواطنة الحقيقية تحصن المواطن من الانخراط في فصائل وقوى تابعة ومرتهنة لقوى خارجية يكون فيها ولاء الفرد لتلك القوى ومشاريعها حتى وإن تناقضت مع مصالح شعبه ووطنه.
77عاما، فشلت معها الكيانات والقوى السياسية والأنظمة من تفعيل وجودها المؤسسي، وسقطت في أزمنة تدفع فيها الشعوب فاتورة الموت والفساد وعدم الاستقرار، مع طغيان العسكرتاريا بشكل عام على مفاصل الحكم، وعجز النظام السياسي العربي عن إنتاج دولة حديثة تتماشى مع المعايير المعاصرة لدولة المواطنة. ومما لا شك فيه بأنه لا يمكن إنكار الدور الإقليمي والدولي في تفعيل هذا الفشل تماشيا مع لعبة المصالح وتقاسم النفوذ. ولذلك، فإن لدول الاستعمار والانتداب السابق دورا كبيرا في ترك دولنا منغمسة في الفساد والتوتر وصراعات الحدود والأقليات وغيرها من السبل التي تجعل الدولة أو النظام السياسي العربي يلتجئ إليها لتبقى تلك القوى حاجة لا بد منها.
لقد وجد النظام العربي، مع فشله أو عدم رغبته في بناء دولة المواطنة والدولة الوطنية القوية، في القضية الفلسطينية وفي الصراع العربي الإسرائيلي طوق نجاة لاكتساب الشرعية القومية والسياسية وعاملا يتم الاستثمار فيه لصياغة عقد اجتماعي يساهم في بناء واستمرار مشروعيته لعقود طويلة رغم حالة التهميش والفقر وعدم التوازن الاجتماعي التي طغت على حياة مواطنيه والكثير من مجتمعاته. وإذا ما عدنا إلى زمن نكبة العام ١٩٤٨ والتي ستحل ذكراها الأليمة بعد أيام، نجد أن سعي الأنظمة العربية في تلك المرحلة “للبقاء” من خلال تحالفاتها مع الاستعمار البريطاني الذي وضع نصب عينيه تطبيق وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حارما فلسطين وحدها من الإطار الذي يسمح لأهلها بتشكيل كيانهم السياسي، أسهم في إيصال المنطقة إلى هزيمة الجيوش العربية بشكل مخز في حرب النكبة. وبعد النكبة استمر العجز مع أنظمة الانقلابات العسكرية التي استطاعت أن تزرع في العقل الجمعي العربي فكرة أن هزيمة حزيران العام ١٩٦٧ لم تكن سوى مجرد نكسة لأن العدوان فشل في إسقاط الأنظمة التقدمية. ترافق كل ذلك مع خطاب قومي وطنجي مهيمن، ومحاولات مستميتة لإجهاض حركة النضال الوطني الفلسطيني والهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية ومصادرة قرارها الوطني المستقل. وقد دفع شعبنا الفلسطيني الأثمان الباهظة من تل الزعتر إلى شاتيلا وباقي المنافي، حفاظا على هويته الوطنية ومنعا لاستخدامه دمية في لعبة الأنظمة والأمم.
ومع سقوط الأقنعة وخلع الوجوه المستعارة، لبس الانحطاط قبعة الاتفاقيات الإبراهيمية التي فتحت أمام دولة الاحتلال كل مساحات التطبيع والاندماج بالمجان، وأخرجت تلك الدول من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي لتحوله إلى مشكلة فلسطينية إسرائيلية، والهدف البقاء في السلطة بعد أن تحولت المنطقة إلى ملعب تتصارع على ارضه القوى الإقليمية والدولية.
صحيح أن معظم الإنجازات الإسرائيلية في واقعها هي هزيمة العرب لأنفسهم أكثر من كونها انتصارا إسرائيليا. لكن حالة التراجع والانهيار هي أيضا محصلة للسلوك القاصر والأناني لبعض القوى الفاعلة داخل الساحة الفلسطينية التي ارتضت لنفسها الارتهان لمشاريع خارجية اخرجتها من دائرة النضال الوطني وحولتها إلى أدوات في يد هذه الدولة أو تلك بعد أن استنفذت دول الإقليم كل أدواتها لإخضاع منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المناضلة، فكانت نكبة انقلاب العام ٢٠٠٧ في قطاع غزة التي لا زلنا نعيش تداعياتها وارتداداتها حتى يومنا هذا.
وليس هناك أي مبالغة في وصف الانقلاب في غزة ب” النكبة”. فقد أدى ذلك الانقلاب إلى تكريس حالة الانقسام الفلسطيني وشكل فرصة ذهبية أمام إسرائيل لتحقيق حلم صهيوني بتمزيق الوحدة الجغرافية لدولة فلسطين المنشودة من خلال فصل قطاع غزة عن باقي الوطن، كما فتح شهية القوى المهيمنة على القطاع لمحاولة فرض نفسها بديلا للقيادة الشرعية الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية، لا سيما وأنها حظيت بدعم عواصم عربية وأخرى إقليمية وتسهيلات إسرائيلية، فطريق مطار بن غوريون-غزة لنقل الأموال كان سالكا وآمنا لسنوات طوال.
سبعة وسبعون عاما على النكبة، نما خلالها المشروع الصهيوني وتجذر وتصاعدت قوته وفرض نفسه كقوة غاشمة فوق القانون، وشرطي للمنطقة ترفع معه الولايات المتحدة عصاها الغليظة اذا ما تعرض لمواجهة أو تهديد.
ومع النكبة الجديدة منذ السابع من أكتوبر، يعانق شعبنا الفلسطيني آلامه لعجزه عن معانقة احبائه الراقدين تحت التراب والذين يعتبرهم قادة قوى الأمر الواقع “خسائر تكتيكية “. فالمهم البقاء في السلطة ولو بشكل غير مباشر من خلال التمسك بالسلاح، لأن من يمتلك السلاح قادر على فرض سلطته على أي إدارة قائمة وأن كان غير ممثل فيها بشكل مباشر.
سبعة وسبعون عاما على النكبة اعترتها إخفاقات ونجاحات. لكن الصراع لم يتوقف، ونقاط الضوء أيضأ كثيرة. ورغم تتابع النكبات ، يبقى شعبنا عصيا على الاندثار وتبقى منظمة التحرير رائدة نضالنا الوطني. فشعبنا والمنظمة وفصائلنا المناضلة اعتادت المشي بين الألغام وتحقيق الإنجازات المتراكمة والتي لم يكن آخرها تصريح وزير الخارجية البريطانية ب “أن الاعتراف بدولة فلسطين أمر وارد ولا ننتظر إذنا من أحد في ذلك”. إنها ذات الدولة صاحبة وعد بلفور.
مع ذكرى النكبة ، تبقى فلسطين هي الحكاية ، وهي مفتاح الحرب والسلم.