أقلام وآراء

فلسطين ذبيحة التحولات

 

بقلم : د.فريد اسماعيل

انشغل المعنيون وغير المعنيين بخبر استدعاء الرئيس الأمريكي ترامب لنتنياهو على عجل إلى البيت الأبيض حتى كاد هذا الخبر يطغى على حرب الإبادة الجماعية والتي يبدو أن الكثيرين قد تأقلموا معها ومع مشاهد الموت وأشلاء الاطفال والأمهات والشيوخ في غزة وعلى امتداد أرضنا الفلسطينية.  انشغل الجميع بممارسة التنجيم ومحاولة التنبؤ بما سيقدمه ترامب لنتنياهو من هدايا تسنده في حربه لإنهاء الوجود الفلسطيني وتحقيق الأهداف الصهيونية الأمريكية المشتركة.  وعلى الرغم من أن الرباط بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل هو رباط وجودي، إلا أن نتنياهو حين جلس على نفس الكرسي الذي جلس عليه منذ فترة وجيزة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فوجئ بأن ترامب يقدم الهدايا لنفسه، ويوجه الرسائل المباشرة بأنه صاحب الأمر والنهي في رسم الخارطة الجديدة للمنطقة، وهو الذي يحدد مساحة الأدوار لهذه الدولة أو تلك في الإقليم مع حرصه على مصالح إسرائيل العليا.  وعلى الرغم من أن العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا ولن تتغير تحت أي ظرف من الظروف، إلا أن ترامب بنرجسيته المفرطة ينظر إلى الآخرين مهما بلغ شأنهم أو مستوى تحالفه معهم بصفتهم كومبارس.  فقد كتب عاموس هآريل في هآرتس في معرض توصيفه للقاء ترامب نتنياهو بأن الأخير ليس سوى ممثل في استعراض ترامب. ويضيف عاموس بأن نتنياهو لم يتعرض لما تعرض له زيلينسكي ولكن يمكن القول بأنه كان “نصف زيلينسكي ” لكن المشترك بين الاثنين هو أن المسؤول عن الاستعراض وكاتب السيناريو والمخرج هو ترامب.

صحيح أن اللقاء في البيت الأبيض كان كاشفا، إذ عمد ترامب إلى توجيه رسائل واضحة لنتنياهو محصلتها أن المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية العظيمة هى الأهم،لكن هذا لا يجب ان يدفع أي أحد للاعتقاد بأنه يمكن الرهان على توقع فجوة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية نتيجة اختلاف الرؤى لدى الطرفين في طرق ومساحة توزيع الأدوار في المنطقة، ومدى النفوذ الذي يمكن أن يعطى أمريكيا لهذا الطرف أو ذاك،لأن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل تتجاوز نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغيرهم لارتباطها بوجود إسرائيل ككيان والأهداف المناطة بهذا الوجود.

لقد كان نتنياهو يمني النفس حين استدعاءه على عجل إلى البيت الأبيض بأن يبلغه ترامب بتخفيض الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي على إسرائيل من ١٧% إلى ١٠% على الأقل أو حتى الغاءها بالمجمل، وان يقدم له الدعم في تصديه للنفوذ التركي المتصاعد في سوريا، أو أن يفرحه بقرار بمهاجمة إيران. وما كان لافتا في هذه الزيارة السرعة التي تمت بها وختامها بطريقة مبهمة.   فهيئة  البث الإسرائيلية ذكرت “ان الزيارة انتهت فجأة وبدون أن تسفر عن أي أخبار مهمة بالنسبة لإسرائيل، ولم تحقق أي تقدم يذكر بالنسبة للمفاوضات بشأن الرهائن، كما لم يلتزم ترامب بخفض الرسوم الجمركية التي فرضها على إسرائيل، وتم الإعلان رسميا عن المفاوضات مع ايران وعن موعدها.

لقد بدا نتنياهو خلال اعلان ترامب يوم السبت موعدا للمفاوضات المباشرة مع ايران كمن تلقى صفعة على وجهه، سبقتها صفعة أخرى حين وبخ ترامب نتنياهو بالقول إن الولايات المتحدة تقدم سنويا دعما ضخما لإسرائيل يبلغ أربعة مليارات من الدولارات ولا يمكن إعفاء الواردات الإسرائيلية من الرسوم، تبعتها صفعة ثالثة حين كال المديح للرئيس التركي وذكر انه هنأ الرئيس اردوغان لأنه فعل ما لم يستطع أحد فعله خلال ألف عام مخاطبا إياه بالقول لقد سيطرت على سوريا. ثم توجه ترامب لنتنياهو بالقول أنه إذا كانت لديك مشكلة مع تركيا اعتقد أني قادر على حلها ولدي علاقة جيدة مع زعيمها.

لم يتلقى نتنياهو الدعم الذي أراده، كما وافهمه ترامب أن القرار للولايات المتحدة الأمريكية في كل الملفات.  فترامب يدوزن الأحداث والأدوار تبعا لما يعتبره المصالح العليا لأمريكا التي يعتقد أنه بإمكانه جعلها عظيمة مجددا.

ومن الواضح أن نتائج هذه الزيارة كانت مخيبة لآمال نتنياهو وإسرائيل، لكن هذا لا يعني أن هناك أي تغير في السياسة الأمريكية أو في دعم الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية والتي أصبحت الولايات المتحدة شريكا كاملا فيها.  فعلى الرغم من اعتراف الولايات المتحدة بالدور التركي المتصاعد في سوريا، إلا أنها لن تسمح بعرقلة التمدد الإسرائيلي فيها بذريعة وصفها بالخطوات الاستباقية والضرورية للحفاظ على الأمن القومي للكيان. ولهذا فقد دفعت الولايات المتحدة الأمريكية الطرفين الإسرائيلي والتركي للاجتماع في أذربيجان للتفاهم ولو فنيا على مساحات النفوذ لكل منهما في الداخل السوري. ورغم التصريحات التي تؤكد فشل التوصل إلى تفاهم، إلا أن هذا يعيدنا إلى الدرس الذي لم يفهمه الكثيرون بعد، وهو بأن القوى العالمية والإقليمية تتطلع إلى منطقتنا من منظار مصالحها الذاتية، وتستثمر في الفرص المتاحة للتوسع الجيوسياسي والاقتصادي وحتى العسكري دون النظر إلى توافق أو تناقض هذه المصالح مع طموحات وأحلام وأهداف شعوب المنطقة.  وهذا ليس جديدا أو غريبا في ظل حالة الضعف والوهن العربي. فالاهداف الصهيونية واضحة منذ نشأة الكيان، أما المتغير الذي أفرزته التحولات الكبرى بعد السابع من أكتوبر، فهو التبدل في الأدوار الإقليمية وتقدم الدور التركي بعد انكفاء المشروع الايراني في المنطقة، ودفع إيران إلى القبول بالتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية حول برنامجها النووي بعد فقدانها لمعظم اذرعها واجنحتها في المنطقة.

وهنا السؤال الكبير: أين فلسطين من كل هذه المتغيرات .

فلسطين اليوم لم تعد جريحة، بل ذبيحة. تقتل إسرائيل بدم بارد أربعة عشر مسعفا  تحرق الصحفيين في خيمتهم، وتستمر في شطب العائلات من السجل المدني وكأن الأمر أصبح اعتياديا.  تقتطع أجزاء كبيرة من القطاع وتعيث دمارا وتغييرا للمعالم في الضفة ومخيماتها، وحرب التجويع تغرز مخالبها من جديد في أمعاء أطفال غزة.  أما العالم، فكل يبحث عن دور له في المنطقة والاقليم على أشلاء ضحايانا.  فمتى يستفيق المغامرون  ويخرجوا من حالة العبث حفاظا على قضيتنا الوطنية وانقاذا لما ولمن تبقى.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى