أقلام وآراء

 ترامب يتجاوز كل الأعراف: سرقة وتجاوز سيادة الدول وتزوير للتاريخ

 

 

بقلم: خليل حمد

يحتاج الرئيس دونالد ترامب إلى دروس في التاريخ، فأخطاؤه العلنية في معرفة التاريخ تجعله مثيراً للسخرية في كثير من الأحيان، وللغضب دائماً. آخر “كوارثه” في نسب إنشاء قناة السويس إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وحاول تسخير هذه الكذبة لتأمين “مرور مجاني للسفن الأمريكية فيها وفي قناة بنما.

لا تبرير يُقال بعد هذا الكلام. لم يكن الرجل يجيب على تساؤل أحد الصحفيين مثلاً، بل جاء ذلك في منشور له على منصة تروث سوشيال: “يجب السماح للسفن الأمريكية، العسكرية والتجارية، بالمرور عبر قناتَي بنما والسويس بحُريّة، هاتان القناتان ما كانتا لتوجَدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية. طلبتُ من وزير الخارجية ماركو روبيو أن يتولى هذا الأمر على الفور”. الكتابة على منصة للتواصل الاجتماعي تأتي عن سبق إصرار وتصميم وليست “تصريحاً ارتجالياً”، فما الذي دفع ترامب ليكتب ما كتبه، وأين مكمن الخطر والخطأ؟

لنبدأ من النهاية. أخطأ ترامب في التاريخ عندما نَسَبَ إنشاء القناتين إلى بلاده. وإذا كان “استكمال” شق قناة بنما تم على يد الأمريكيين بالفعل، إلا أن التاريخ يؤكد أن فكرة إنشاء القناة تاريخياً تعود إلى زمن الفراعنة، الذين شقوا فعلاً قناة “سيزوستريس” لوصل البحرَين الأحمر والأبيض في أيام حكم الفرعون سنوسرت الثالث. أما أول محاولة لحفر قناة السويس كما نعرفها فكانت فرنسية، وفقاً لمخطط المهندس فريدناند دوليسبس، الفرنسي نفسُهُ الذي أشرف على حفر قناة السويس المصرية، وأنجزها دون أن يكون للأمريكيين دور إطلاقاً.

تكمن خطورة تصريحات ترامب في الـ “يجب” التي استخدمها في بداية كلامه تعطي إيحاءً بأنه يعطي الأوامر التي على الدول الأخرى أن تلتزم بها “دون نقاش”, ما يلغي فكرة السيادة والاستقلال لكل من مصر وبنما. الخطر هنا في عقلية ترامب التي تعتبر أن واشنطن لا تزال “تأمر” العالم فيستجيب لها، والمتضرر من هذه العقلية ليس الدولتان المعنيتان فحسب، بل دول العالم التي استهدفها ويستهدفها بطرق مختلفة: رفع التعرفة الجمركية، تهجير أهالي غزة، صفقات المعادن النادرة… إلخ. المتضرر أيضاً هي الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي والأسس التي يقوم عليها النظام العالمي بما فيه اتفاقيات “التجارة الحرَّة”، ويشكِّل الطلب الترامبي بحدِّ ذاته “تجاوزاً غير مقبول” و”لا أساس قانونياً له” وفقاً للرد السريع من الديبلوماسي المصري الأممي الشهير محمد البرادعي، الذي أوضح أن الولايات المتحدة ليست طرفًا في اتفاقية القسطنطينية لعام 1888 التي تضمن حرية الملاحة في قناة السويس. ثمَّ إن القناة بعد تأميمها في 26 تموز/ يوليو 1956 أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السيادة المصرية، ولا مجال للتدخلات الخارجية فيها.

الخطورة أيضاً في كلام دونالد ترامب أنه أوعز لوزير خارجيته بـ “تولي الأمر على الفور”. هذا دليل على أن العمل بدأ فعلاً للضغط على كل من مصر وبنما لأجل منح السفن الأمريكية “امتيازات” تخترق السيادة الوطنية للبلدين، وتؤثر على حقوق الشعبَين في عائدات كل السفن التي تمر عبر هاتين القناتين. لا يكترث ترامب مطلقاً للاقتصاد العالمي، بل يعتقد أنه يحكم في زمن الإقطاع، حيث لا سيد إلا أمريكا وباقي العالم هم “فلاحوها”، والجباية هي فقط ما يهمه. وفي حالة القناتَين المائيَّتين الأهم في العالم، يتعلق الأمر بالتهرب من الدفع. بعبارة أخرى: يريد ترامب أن يسرق أموال العالم عن طريق رفع الرسوم الجمركية، و”ابتزاز” مصر وبنما للحصول على استثناءات خاصة تعفيه من دفع المستحقات المترتبة على عبور سفن بلاده لهذين الممرَّين المائيَّين.

وبعيداً عن الاقتصاد، في الأمر رسائل عسكرية أيضاً، فترامب ألمح في منشوره إلى إعفاء “السفن العسكرية” من رسو المرور. يريد الرجل أن يحرِّك قوات بلاده كيفما شاء وفي أي اتجاه أراد بأسرع وأسهل وأقرب الطرق، وبالحد الأدنى من التكاليف. يأمل ترامب أن يمنح الولايات المتحدة أفضلية في الملف العسكري أيضاً بمواجهة الصين، التي يدَّعي أنها تريد “السيطرة” على قناة بنما دون أن يملك دليلاً واحداً على تلك المزاعم. بل إن طموحات “عسكرة” قناة بنما ظهرت جلية في مطالبة وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث بإعادة إحياء القواعد العسكرية الأمريكية في بنما لـ “ضمان أمن القناة” والحيلولة دون “سيطرة الصين عليها”، مطالباً في الوقت نفسه بمرور سفن بلاده بالمجان.

في موضوع قناة السويس لا ينفصل الأمر عما يجري في مضيق باب المندب من كباش مستمر لفرض السيطرة الأمريكية والتحكم بأحد أهم الممرات المائية في العالم. كما أنه مرتبط بشكل واضح بـ “طموحات” واشنطن للسيطرة على قطاع غزة وتحويله إلى “منتجع أمريكي”، تخيلوا مشهداً يتم فيه عبور السفن الأمريكية من شواطئ القطاع عبر قناة السويس وباب المندب إلى كل الشرق دون دفع رسوم للعبور. اقتصاد وسياسة واستعمار تجتمع في لوحة يتم تجميع أجزائها تدريجياً، وليست غزة وحدها أو فلسطين كلها في دائرة الاستهداف هنا. مصر متضررة بقدر فلسطين وربما أكثر في هذا الملف، لأن قناة السويس أحد موارد مصر الاقتصادية المهمة، وأحد أركان سيادتها، ولأنها تثبت الدور المصري الذي يتجاوز الإقليم إلى العالم لكون القناة أهم ممر مائي يربط الشرق بالغرب. ولأن المخطط الأمريكي يقضي بـ “العبور المجاني” لسفن الولايات المتحدة، والسيطرة على قطاع غزة ما يسهل إنشاء قناة موازية لقناة السويس، تربط البحرين الأحمر والمتوسط انطلاقاً من خليج العقبة، تحت مسمى “قناة بن غوريون”، المشروع القديم الجديد الضخم، الذي من شأنه أن يسحب البساط نهائياً من تحت قناة السويس مع تلافي تفاصيل مثل عرض القناة التي تفرض تقسيم عبور السفن ذهاباً أو إياباً في أيام محددة. إنشاء هذه القناة قد يُصبح أسهل بالنسبة للأمريكيين والإسرائيليين إذا تمكنوا من احتلال غزة وتهجير أهلها بالكامل، وهذا أحد منابع الخطورة في الضغوط الأمريكية على القاهرة للسماح بتوطين الغزيين على الأراضي المصرية.

الأمر ليس بهذه البساطة بكل تأكيد، فالرفض المصري واسع وحازم وعلى كل المستويات وأعلاها، ولكن: هل يكفي الرفض لمواجهة ما يخطط له الأمريكي والإسرائيلي في ظل نقص أدوات المواجهة؟ هل هي معركة مصر لوحدها؟ أم إنها معركة جميع الدول العربية التي يتم استهدافها الواحدة تلو الأخرى؟ رغم بديهية الإجابة إلا أن الخشية كبيرة من أن “إدراك المخطط” لا يعني “الانتصار عليه” دون أن نشحذ أدوات المواجهة ونعدَّ العدَّة لكباش طويل الأمد يجب أن ننتصر فيه، لأجل مصر، وفلسطين، ولأجل العرب جميعاً، ولأجل القانون الدولي والإنسانية جمعاء.

زر الذهاب إلى الأعلى