أقلام وآراء

ترامب يبدأ “الحرب الاقتصادية”.. الشرق يرد فماذا عن الحلف الغربي؟

 

 

بقلم : خليل حمد

هل طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نفسه وإدارته أسئلة من نمط: “هل نحن مستعدون؟” قبل أن يعلن “حربه الاقتصادية على الجميع”؟ ربما يبدو السؤال متأخراً أمام حزمة الإجراءات الاقتصادية القاسية التي أعلنها الرجل مؤخرا على واردات بلاده من معظم دول العالم، واصفاً الخطوة بـ “إعلان التحرير الاقتصادي للولايات المتحدة”.

فقد شملت الإجراءات فرض ضريبة 25% على السيارات المستوردة، و20% على الواردات الأخرى، مع نسب أعلى استهدفت شركاء تجاريين محددين: 34% على الواردات الصينية وأعيد النظر بها لتصبح 125% ولترد الصين بزيادة الضرائب الجمركية بذات النسبة، 24% على الواردات اليابانية، 20% على واردات الاتحاد الأوروبي، وفقاً لشبكة “سي إن إن بيزنس” الأميركية. لم يكتفِ ترامب بذلك. لا يريد الرجل لأحد أن يرد عليه بالمثل، فأمام قرار صيني بفرض ضريبة مماثلة على البضائع الأمريكية (34%)، لوح ساكن البيت الأبيض برفع الضرائب من طرفه إلى 50%!

هذا التهديد يجعل التشكيك بهدف الخطوة أمراً صائباً، فهي تحمل صيغة انفعالية وانتقامية غير محسوبة. غير أن الهدف المعلن من قبل إدارة البيت الأبيض هو “تقليص العجز التجاري وتحفيز الصناعة المحلية”، لكن هذا الهدف مبني على رؤية أحادية من أركان إدارة ترامب، أو ربما من ترامب وحده، غرفة التجارة الأمريكية اعتبرت الخطوة “ضريبة واسعة على المستهلكين” وتُهدد بحدوث ارتفاع حاد في الأسعار وتباطؤ اقتصادي بحسب صحيفة وول ستريت جورنال.

الخطوة أثارت ردود أفعال سريعة من قبل شركاء الولايات المتحدة الاقتصاديين، ومنهم حلفاء تقليديون لواشنطن أغضبهم القرار ليس لأنه سيؤثر على اقتصادهم فحسب، بل لأنه يمثل “طعنة” على المستوى السياسي وعلى مستوى “الثقة” بين أعضاء الحلف الغربي التاريخي. الأمر له منحيان إذاً. وللنقاش فيهما كثير من التفاصيل. كندا مثلاً حذرت من فقدان مليون وظيفة وارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، واحتمال دخولها في ركود اقتصادي. الاتحاد الأوروبي وصف القرار بأنه “غير متناسب”، معلناً نيته الرد بإجراءات مضادة لحماية مصالح السوق الأوروبية المشتركة. الكلمة الأصدق ربما جاءت من رئيس الوزراء الأسترالي: “التعريفات الجمركية ستؤذي أميركا أكثر مما ستفيدها”.

والأذية هنا حرفية وليست مجازية. وفق توقعات الخبراء هناك ثمن كبير سيدفعه الأمريكي والعالم، ولا احد يعرف إذا كان الجميع مستعداً لذلك. أول النتائج المباشرة كانت تراجعاً ملحوظاً في الأسواق المالية خوفاً من احتمالية دخول الاقتصاد الأميركي في موجة من التضخم والركود المتزامنين (رفع بنك غولدمان ساكس احتمالات حدوث ركود في الولايات المتحدة إلى 45%). أما النتائج الأبعد فستشمل الأسواق الأمريكية والعالمية. داخلياً سترتفع أسعار المواد المستوردة دون قدرة على استبدال هذه البضائع بأخرى محلية الصنع، لأسباب عديدة من بينها نقص العمالة في ظل قرارات ترامب ترحيل المهاجرين، كل هذا سيؤدي إلى زيادة معدل التضخم في الولايات المتحدة بشكل متسارع.

الأمر نفسه سيسري على الأسواق العالمية. الصين مثلاً تعيش حالياً أزمة فائض الإنتاج والانكماش. الرسوم الأمريكية ستجعل الأمر أكثر حدة، ومرونة الاقتصاد الصيني غير معروفة رغم إجراءات التحفيز الحكومية. أما أوروبا التي تتأرجح على حافة الركود فتتوعد بالرد بالمثل، ولكن هذا الأمر سينقل الركود إلى السوق الأمريكية أيضاً، بحيث لن تجد الولايات المتحدة أسواقاً لتصريف منتجاتها. الاقتصاد عملية تبادلية، ولا يمكن لطرف أن يفرض رسوماً على الاستيراد دون أن يتوقع رسوماً على صادراته.

هل تغيب هذه النقطة الأساسية عن ترامب ومجموعته الاقتصادية؟ ربما الأمر مقصود، فنظرياً قد يؤدي التضخم إلى حل مشكلة الديون الأمريكية الضخمة بخفض قيمتها، لكن هذا الأمر له آثاره الكارثية على مستوى التطبيق، ففي الاقتصاد القاعدة ثابتة: “دينك هو أصل لشخص آخر، رأس مال شخص آخر، ومدخرات شخص آخر”. هروب البيت الأبيض من القيمة الحقيقة للديون الأمريكية سيجعل الجميع يدفع الثمن. بمعنى أن “حرب ترامب الاقتصادية” ستؤدي إلى انخفاض هائل في مستوى المعيشة في الولايات المتحدة والعالم، وهو ما سيؤدي حتماً إلى اضطرابات سياسية.

وعلى ذكر السياسة، فإن طريقة الرد على الإجراءات الأمريكية عالمياً تشي بالكثير عن شكل العالم الذي نشهد مخاضه اليوم. أوروبا مثلاً أعلنت على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين العمل على تطوير السوق الداخلية والعلاقات مع الشركاء الآخرين. لكن أوروبا نفسها تهرَّبت من الحديث عن هذه “الحرب الاقتصادية” في اجتماعات حلف الناتو، لأن الحلف “يُركز على القضايا الأمنية. أما القضايا المالية والتجارية فهي من مسؤولية الحكومات الوطنية”، وفقاً للأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته. هو نفسه الاجتماع الذي سيحضره لأول مرة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو! هذا يشي أنه لا يوجد قرار أوروبي حتى اللحظة بالخروج من العباءة الأمريكية، رغم أن الحلف بين أركان الغرب بدأ يتصدع، في الاقتصاد وفي السياسة قبل ذلك.

بالمقابل، تبدو خطوات المعسكر الشرقي أكثر اتزاناً. عشية ساعة الصفر لبدء الإجراءات الاقتصادية الترامبية، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال استقباله نظيره الصيني وانغ يي أن “روسيا والصين متحدتان” معدداً أركان هذه العلاقة الراسخة وعلى رأسها “الشراكة الواسعة في إطار المصالح الوطنية”، ومشدداً على أن رئيسَي البلدين عازمان على تعزيز “الروابط الروسية الصينية” بشكل مستدام. لا يخفى على أحد أهمية السوق الروسية بالنسبة للمنتجات الصينية، خصوصاً في ظل “العقوبات” الغربية القاسية ضد موسكو. خطوة روسية صينية مهمة لكنها ليست وحيدة. توسع موسكو أسواقها التجارية غير المعتادة، فمثلاً نما التبادل التجاري بين روسيا وفيتنام أكثر من 20% خلال 2024، وبلغ 6 مليارات دولار، علماً أن “هذا المستوى لا يمثل الحد الأقصى للتجارة”، وفقاً للافروف أيضاً.

الانفتاح على الأسواق الأخرى كلمة مفتاحية في الرد على إجراءات ترامب. وسائل إعلام صينية ذكرت أن الصين واليابان وكوريا الجنوبية اتفقت على الرد بشكل مشترك. وفق الاتفاق فإن اليابان وكوريا الجنوبية تسعيان لاستيراد مواد خام لأشباه الموصلات من الصين، والصين مهتمة أيضاً بشراء منتجات الرقائق منهما، خطوة أولى كللها اتفاق على تعزيز التعاون في سلسلة التوريد والانخراط في حوار أوسع بشأن ضوابط التصدير.

الأمثلة الأخيرة لخطوات روسيا والصين في مواجهة إجراءات ترامب الاقتصادية ليست الوحيدة، لكن ذكرها يأتي بهدف الوصول إلى استنتاجات سياسة حول طبيعة النظام العالمي الذي نعيش مخاضه. ففي حين تدور أوروبا في حلقة مفرغة من الحلول التقليدية، تبدو موسكو وبكين أكثر مرونة وانفتاحاً على أسواق العالم، حتى الدول التي لا تُعتبر جزءاً من التحالف الاقتصادي التقليدي مع المعسكر الشرقي، بل محسوبة على الحلف الأمريكي الأوروبي. لا يمكن التقليل من أهمية هذا الاختراق في التوازنات العالمية من بوابة الاقتصاد.

لا أحد طبعاً يقول إن السياسة الاقتصادية الأمريكية ستكون بلا آثار على العالم، بل إن أفضل المتفائلين يؤكد أن النتائج ستكون قاسية على كل الدول، وعلى الاقتصادات الأضعف بشكل أوضح. لكن ولأن قوانين الاقتصاد فيزيائية، فهناك خلاصة لا يجب أن تغيب عنا: يتغير شكل وطبيعة وبنية المادة عن تطبيق ضغط كبير عليها، أكبر مما تستطيع معه الحفاظ على شكلها. في الخلاصة: الضغوط الكبيرة تؤدي إلى تغيرات في شكل القوى العالمية وتحالفاتها، وهذا جزء من ولادة العالم الجديد الذي نشهده اليوم.

 

زر الذهاب إلى الأعلى