ذلك المكان

نائل موسى
نائل موسى 12 يناير، 2020
Updated 2020/01/12 at 11:38 مساءً

 

 بقلم : رانية فهد                           

في ذلكَ المكان اهتزّ قلمي وسالتْ قريحتي، بسطوةٍ من لحظة بوحٍ تارة يعتصرها الألمُ ويجتاحها الحزن، وتارةً أخرى يلقي عليها الفرح ظلاله، وتغمرها فيوض السّعادة… لا شيءَ غير الكتابةِ سبيلي…. فانبريت للمقال عندما لمعَ ذلك المكان كالبرقِ… وامتشقتُ القلم ليخطّ أو يجلجل أو يصدح… وأُطلق له العِنان ليبوحَ دون وجلٍ أو حرج،  ويستخلص تلك اللحظات الجميلة حتّى من أقسى مواقفها… لا سبيلَ غير الكتابة أعبّر بها عن أروع حكاية عشق متغلغلة في أعماق الأعماق، بل عن أروع  نبض بحبٍ غريبٍ عجيب لذلك المكان الذي سكنكَ وسكنته… بحبٍّ يجهله كثيرون في معترك عالم ماديّ… أجل، تلك اللحظات التي أبتْ إلا أن تنطلق من عِنانها  وتأخذك بعيداً بعيداً آخذة بتلابيب ذاكرتك، بلْ إلى أجمل ذكرياتك وطموحاتك ولحظاتك الجميلة … أجل، عن ذلكَ المكان سوف أفضي، أفضفض، أبوح، أشكو… بتلك الحكاية الآسرة  التي بدأت في ذلك المكان… حكاية الفرح والعطاء والبذل والالتزام بالعملِ والمجدِ الباهر بأفضل مستوياته… بل قلْ تلك الطّاقة الجبّارة الطّموحة الموهوبة التي تقودك إلى ذلك العطاء دون مقابل… بل ذلك الحبّ الذي يجعلك تعطي وتعطي… تستعدّ وتستعدّ لجعل كلّ شخصٍ تقابله أفضل ممّا وجدته… يجعلك ذلك الإنسان الذي خبر تلك التّجارب الفكرية التي تمدّك بمهارة تحويل المحنةِ انتصاراً والتراب ذهباً… ذلك القائد الذي لم يكنْ له منصب، ولكنّه خُلّد بأفعاله العظيمة التي تدوم طويلاً بعد وفاته… كان القائد الملتزم بالعملِ بأفضل مستوياته، ليجعل التّحدي هدفه المعلن… تنهض به إرادة أبيّة عصيّة، تأبى إلا أن تترك أثراً بعملٍ مفيدٍ نافع، تجعلهم يلمسون النّبوغ المميّز ويدركون أفضل ما فيهم… والأهم من ذلك… عشقك لتلك الشّخصية القويّة التي كان لك منها حصادٌ وفير، متسلّحاً بأخلاق جميلة وإلهام مائز أصبحتَ عليه مفطوراً….   أتندم؟ ولِم الندم؟ وقد قال المهاتما غاندي: ” بطريقة رقيقة، يمكنك أن تهزّ العالم “… أجل، إنّه شخص قام ببناء الآخرين لا تدميرهم… ألسنا بحاجة ماسّة إلى بناء الإنسان… أكثر من حاجتنا إلى بناء العمران؟…  في  ذلك المكان  كان العطاءُ الجمّ…كان العرق .. كانت الابتسامةُ الصّادقةُ … كان البذل ودون أن ْ يرفّ لكَ جفن… كانت تلك البوصلةُ التي تقودك إلى عالم آخر… عالم الإبداع ونشوته … عالم الحبّ، فالحبّ يقودك إلى التّعاطف مع الآخر، لأنّك لن تفهم الآخر إلا حين تشعر به… وفي عالمِ البذلِ والوجعِ هناك تبدع وتبدع… فتراك تغتنم كلّ دقيقة وثانية بما هو فاعل في خيرِ الإنسانيّة جمعاء…  عالم الصّدق الذي هو شجاعة وشفاء وعدل وعبادة …  ولم لا؟ ومن فرْط الحبّ وجذوته يصبح ذلك المكان مسكوناً فينا… كنّا نخشى أن يتغيّر المكان… كنّا نخشى أن يدفن الطموح ويهدم البناء… كنا نخشى أن نذرف الدمع يوما عند ذكريات جميلة قد لا تتكرّر… وتمرّ الأيام دون أن تستأذننا… تفتّح أبواب كثيرة… وتوصد أخرى… لا ندري من يقوم لدى الباب… قد تعذر الأيام… قد تُستعتب… قد لا تستعتب… الحياة نهج… الاختلاف واقع لا محالة… لا يمكن أن تستنسخ كلّ ما مرّ… ولكنّك ترنو إلى السماء… تحدق في النجوم أو تحدّق فيك… وبصمتك ووميضها الموحي… تغفو أنت على ذراع الأمل أو الضجر، تقف على شاطيء البوح… أو على رصيف الشكوى… لا تخذلني أيّها المكان… كن معي فإنّي أنستك بعد وحشة.  لا تحشد الأسى فإني للتو برئت من الجراح… لا تنكأ الجرح… لا تقطع الشريان… فإنّي أخشى النزف…   أيها المكان الحبيب حيث أنا…  هناك مكان آخر… أربأ بك أن تكون مثله…. حدثني طائر الوطواط في ليلة داجية … أنّه سُلبتْ فيه بعض القيم الجميلة الموروثة … واسبدلت بها قيم أخرى … فغدت أسمالاً بالية ً … يصعب رتقها… وبات أهل المكان يلبسونها مضطرين…. على سيف المعزّ مرّة وعلى ذهبه أخرى… قال ذاك الطائر التائه: ولا تستغرب، أيّها القابع في غير المكان الساكن في غير الزمان، لا تستغرب شيئاً في هذا الزّمن الغريب العجيب، الذي لا بدّ فيه من الأقنعة ليكبر الصّغار…  قد نقدّم الكثير الكثير ووتكون النتيجة خسران وخذلان… قد يستحيل الحبّ عداء… كانت هناك دواعي التي تجعلنا لنمو مختلف بفكرٍ مختلفٍ …  تكدّست الخيبات… شعر أهل المكان بالغربة فهم  غرباء في دارهم… أعمارهم غدت  لحظاتِ مهدورة  … بكوا وبكوا حتّى جفّت الدّموع … في ذلك المكان.. يا صديقي… مررت به… هُدمت كلّ الأشياء الجميلة  على  رؤوس من بنوها… لا تكذّب الطائر… كان الحسدُ، الذي هو سمّ قاتل يفتك بالناس… يؤرّقهم ويقتلهم …كان وكان.. وتساءل الطير:… لماذا كلّ هذا؟ لماذا لا تعملون على احتواء تلك الطّاقات الفاعلة؟ لماذا لا تسمون عن ذلك القاع المزدحم بأسمال بالية؟ لماذا لا تصدحُون وتجلجلُون بحناجر الحقّ… بقوة الحقّ الصّادرة عن فكرٍ متين متسلح بضميرٍ حيّ يؤمنُ بأنكم بشرٌ قد تختلفون… والاختلافُ ثراء… بقاء… عطاء… وجود… أيها الصديق في المكان البعيد… لا تنسى أنّ الأيام دولٌ… وأنّ قوّةَ الباطل في مظهره وقوة الحقِّ في جوهره … أما الإرادة القوية فلا تكسرها المدافع… تيقّنوا  أنّ صلاتكم  ليست رياضة جسد … بل رياضة روح… واعلم يا صديقي قبل أن أودعك… قبل أن تنقشع ظلمتي… أنّ أفضل معلّم في مدرسة هذه الحياة التي تمضي بعجالة هو الألم الذي يفجّر طاقات من الصّبر والعبر والفِكَر… ليتجذر في فلسطين الأبية مكاننا الأوسع وفضائنا الأرحب … واحفظ مكانك… لا أظنّ مكانك مثل ذاك المكان….                              

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *